يعتبر الفرنسي ألبير ماركيه (1875/1947) – الذي يحتفي به حاليا متحف الفن المعاصر الباريسي – من أقلّ فنّاني التوحّشية بروزا في عصره، لطَبْع فيه إذ جُبِل منذ حلوله بباريس في أواخر القرن التاسع عشر قادما من بوردو مسقطِ رأسه، على تجنّب الأضواء. كان الماء يستهويه منذ صغره، إذ كان يرتاد شواطئ أركاشون الشهيرة، ويمتّع نظره بالبحر وألوانه المتغيرة، ويتدرب على رسم تلك المشاهد. ولما كان مطمحه أن يصبح فنانا، فقد التحق حال قدومه إلى باريس، صحبة أمّه، بمدرسة الفنون الزخرفية، ثمّ انتقل إلى مدرسة الفنون الجميلة، حيث تعرّف على هنري ماتيس وشارل كاموان وهنري مانغان، فكانوا يتابعون معا دروس غوستاف مورو، الذي عرف عنه تشجيعه المبتدئين على المغامرة والابتكار والاشتغال على اللون، ويلتقون في ورشة صديقهم هنري مانغان بباريس، ليبتكروا صيغة في الفن جديدة صارت تعرف بالتوحّشية، التي تقوم على تبسيط الأشكال وحدّة اللون والارتجال السريع. كان ألبير ماركيه أقرب إلى ماتيس، حيث كانا ما بين 1899 و1904، يترافقان في باريس، في حديقة لوغسمبورغ خاصة، وضواحيها مثل أرْكُويْ، لرسم لوحات صنّفها النقاد ضمن تيار ما بعد الانطباعية. وبعد أن ضمن الثالوث انضمام فنانين آخرين كموريس فلامينك وأندري دوران، أقاموا عام 1905 معرضا في صالون الخريف بباريس، قابله أهل الفن ونقاده وعشاقه بالسخط الشديد، بل إن رئيس الجمهورية في ذلك الوقت إميل لوبيه (1838/1929) رفض تدشينه، لأن الذائقة الجمعية لم تكن مهيأة لتقبل تلك الثورة التي ترامى صداها في كامل أنحاء أوروبا. وبالرغم من أن ورشة مانغان صارت ملتقى لرموز التوحشية، فإن ماركيه كان يفضل أن يكون له أسلوبه الخاص، بعيدا عن الجدل الفني الحامي بين المدارس، فمضى يرسم أعمالا تتميز بالجدة والطرافة، منجذبا إلى الماء، حيثما كان، في باريس وجسورها، ثم على ضفاف السين وموانئها مثل بواسي وتيريال وميريكور، ثم في المرافئ الأوروبية، فرنسية وبلجيكية وهولندية وحتى اسكندنافية، قبل أن ينحدر جنوبا باتجاه المغرب، وتونس التي كان يتردد عليها بداية من عام 1919 صحبة جان لونوا وإتيان بوشو. ثم إلى مرافئ الجزائر، كبجاية ووهران والجزائر العاصمة، حيث لاذ هربا من الاجتياح النازي. ومع ذلك، لم يهجر ثيماته المفضلة، إذ لا وجود في لوحاته للمناظر “الإيكزوتيك” التي دأب عليها غيره، ولا للضوء الباهر الذي افتتن به غيره، كالفن المعماري العربي الموريسكي، ولا للنباتات المتوسطية، باستثناء النخل في حالات نادرة، بل كان له ميل خاص إلى الأجواء الضبابية والثلجية، وعن ذلك كتب إلى صديقه ماتيس يقول “لن أكون مستشرقا أبدا”. كان ماركيه منبهرا بالماء، وأضوائه وانعكاسه وامتزاجه وانحرافه وشفافيته، لا ينفكّ يحاول تَمثُّل لحظة طوباوية لا يستقر عليها الماء على مرّ الساعات والأيام والفصول، واختار في مقاربة مشهدياته تنويع زاوية النظر والتأطير، مبتكرا ما سمّاه النقاد ب”الهواء الطلق الداخلي”، حيث غالبا ما يرسم المنظر وهو داخل غرفة تُطلّ من عل، سواء في باريس أو خارجها، ليلتقط من عدة زوايا منظرا واحدا، يكون الماء فضاءه. فعندما يرسم أحد الموانئ، سواء في أوروبا أو اسكندنافيا أو شمال أفريقيا يفتح لوحاته للحياة المدينية، وأدخنة المصانع وأبخرة السفن والرافعات العملاقة وقوارب سحب السفن، فينطبع ذلك على صفاء السماء، مثلما ينطبع على الأصباغ الداكنة لصفحة الماء. وعندما زار فينيسيا ثم نابولي رسم بركان فيزوفيا عن بعد، أي خاليا من التفاصيل واللحظة الزمانية، مستفيدا من تقنية فن “الفيدوتا” الذي ظهر في البندقية خلال القرن الثامن عشر والذي يعتني برسم مظاهر الحياة داخل المدن، مثلما استفاد من الفن الياباني في المرحلة نفسها، ما جعل ماتيس يشبّهه بهوكوساي. والمعرض الذي يقام له في باريس حاليا بعد معرض آخر خصصه له المتحف الوطني البحري عام 2008، جاء وفق خطية كرونولوجية وثيماتية، يتبين الزائر من خلالها تطور تجربة ماركيه الثرية، وتأثره بالحركات الفنية التي سادت عصره، من التيارات الأكاديمية الكلاسيكية والانطباعية وما بعدها إلى التوحشية، قبل أن يصوغ أسلوبه الخاص بعيدا عن تلك المؤثرات. وهو ما عبّر عنه هو نفسه في قوله “أرسم مثل طفل دون أن أنسى بوسّان”، أي سيد الفنون الفرنسية نيكولا بوسّان (1594/1665)، إذ كان له سعي دؤوب للإمساك بالحداثة، يتبدّى في بداياته جنب ماتيس، ثم في لوحاته التوحشية، ثم في لوحات العري التي مزجت بين الأكاديمي والحسّي، وأخيرا هوَسه بالماء ومشهدياته. قيل إن أعماله حجبتها عن الانتشار المستحق أعمال صديقه هنري ماتيس، ولكنها استطاعت بمرور الوقت أن تصمد وتسجّل حضورها لما تتميز به من جمالية هادئة.