دون تخطيطٍ مُسْبَق، واندفاعاً وراء نداءٍ غامض في داخلي، ربما هو التعبير عن العشوائيّة التي تجتاحُ اختياراتنا أحياناً، كان أن قرأتُ ثلاثةَ كُتبٍ على التوالي خلال عشرة أيام قبل مباشرتي بكتابة هذه الورقة. الأوّل، جئتُ به من القاهرة منتصف شهر كانون الأوّل / ديسمبر 2010، صدر أواخر العام الماضي للروائيّة المصريّة مي التلمساني بعنوان للّجَنَّةِ سُور يوميات (1). والثاني، رواية اشتريتها فور صدورها نهاية الشهر نفسه للشاعر الفلسطيني غسّان زقطان واسمها عربة قديمة بستائر (2). أما الثالث، فالذكريات الصغيرة سيرة ذاتية (3) للبرتغالي حائز جائزة نوبل خوزيه ساراماجو. ومثلما كانت تلك القراءات دون تخطيط، فلقد تراكمَت نتائجُها، بدورها، لتخرجَ بما يَصُبُّ تماماً في موضوع هذه الورقة، ولتشكِّلَ جانباً من أسئلتها. أبدأ بالتساؤلِ عَمّا إذا كانت النوايا الكامنة وراء الكتابة تكفي لتحديد الجنس الأدبي الناتج عنها. كما أتساءلُ، في الوقت نفسه، عن مدى مطابقة التجنيس المُعْلَن على غلاف الكتاب للمادة التي يتضمنها في داخله. فالكتب الثلاثة اتخذَ أصحابُها لها تجنيساتٍ تتوافقُ ورؤية كُلُّ واحد منهم للماهيّة الأدبيّة، السرديّة أو النثريّة التي جَلّوها بواسطتها. غيرَ أنّ للقراءات التالية على الكتابة، الآتية من الخارج، رؤاها بما لا تستقيمُ، تماماً، مع ما أُشْهِرَتْ به تلك الكتب. ولعلَّ كتاب ساراماجو الوحيد بين الثلاثة الذي لم يكسر فضاءَ توقُع القارئ؛ إذ لم تخرج مادتُهُ عن مألوف السيرة الذاتيّة؛ بل أزعمُ أنها طابقَت حرفيّاً مفهوم الذكريات بحسب التجنيس المُعْلَن. بينما زاوجَت مي التلمساني بين الكتابة المتأملة لأحداث يومياتها العابرة: رحلات وسَفَر، مؤتمرات، كُتُب قيد الكتابة أو القراءة، حوارات واحتدامات تفكريّة، إلخ، وتلك المعاينات المباشرة لأحوال بلدها مقارنةً ببلَد الهجرة، كندا، والمراوحة بينهما. كلُّ ذلك من خلال المقالة، وإنما على نحوها هي لا نحو السائد الصحفي. أما غسّان زقطان، الشاعر الفلسطيني العائد إلى رام الله بعيد اتفاق أوسلو والمقيم فيها؛ فلقد ذهبَ باتجاه نصوصٍ سرديّة تترابطُ، على إيقاع الذاكرة المُنقّاة والمُنَخَلَّة (التي هي ذاكرته هو الشخص الواقعيّ الموضوعيّ)، وتربطُها بالآنيّ زماناً ومكاناً وشخصيات، في فضاءٍ يرنو لأن يكون روائياً. لدى تأملنا لهذه الحالات الكتابيّة الثلاث، بمعزلٍ عن تجنيساتها وتسمياتها المطبوعة على أغلفة كتبها، فإنّنا سنخرجُ، لا بُدَّ، بقراءةٍ تشهدُ باندراجها، جميعها، في منطقة الكتابات الذاتيّة. فالنصوص الثلاثة طالعةٌ من الذات الكاتبة وعنها، الصريحة دون مواراتها بأيّ أقنعة، وتتمحوّرُ حولها متحركةً داخلَ عوالَم لها كلّ الصِلات المباشرة بسيرورة سِيَرِها، إنْ في الماضي (ساراماجو)، أو في الماضي والراهن (التلمساني وزقطان). وربما لأنَّ الاخيريَن بقدر ما يستعيدان ويحفران في ما باتَ خلفهما (لكنه قابعٌ في أعماقهما)، إنما يعملان، أيضاً وفي الوقت نفسه، على طرح أسئلتهما المزدوجة؛ تلك الأسئلة القابضة على الراهن المرتبك، المترجرج، المنضغط بين تروس الواقعيّ الثقيل وظِلال أمَلٍ بتغييرٍ يصيبُهُ، غير المُسَلَّم به وغير المنْجَز، وبالتالي هي أسئلتهما عنهما في مستقبلٍ لا تلوحُ لهما إشراقةُ بِشارةٍ سارّة تنتظرهما فيه. ومع التنويه إلى الفارق الكبير الفاصل للغات الكتب الثلاثة هذه؛ إلاّ أنها، وربما بسببه أيضاً، كانت خيرُ دليلٍ على المخاتلات التي تلعبها الكتابات الذاتيّة بتسريبها لنفسها عبر تجنيساتٍ أدبيّة تبدو، في ظاهرها، خادعة. إضافةً إلى التواءاتها حول سُبُل الإبانات والشهادات، متحايلةً على المواد المستعادة، من خلال طرائق السرد وكيفيّة تناول الذات لذاتها الصريحة والعاريّة، وبقصديّة مطلقة، من أقنعة التخيُّل وادّعاءاته الفنيّة. غير أنَّ الصراحة، حتّى وإنْ كانت المبتدأ لدى الكُتّاب، بما تعني الصدق ومحاولة التطابُق مع ما حدثَ يوماً ما؛ إلاّ أنَّ اندراج الكتابة ضمن منطقها السردي المُلّتفّ والمبتعد عن المباشرة، والتقريريّة، والتوثيقيّة الخالية من أيّ شكْلٍ كتابيٍّ سواها، سوف يؤدي بها إلى ضَرْبٍ من الخيانة! خيانة الصراحة كمفهومٍ مطلَق، وصافٍ، ونظيفٍ من شوائب الإزاحات والتحريفات والانتقاءات وتخليق بياضات، أو ثغرات، تعملُ على عَزْل الما قبل عمّا تلاه، وإلباس الكُليّات الممنوحة على مساحة النصوص أرديةَ الاقتراح، أو الاحتمال، ليس أكثر! والأرجح أن يشكِّلَ هذا المنعطف، تحديداً، الجوابَ الأقلّ التباساً عن أنّ نوايا ما قبل الكتابة ليست كافيةً كمصدرٍ مأمون لتجنيب النصّ خروجَهُ وانفلاتَهُ باتجاهات مغايرة. في كتابه السِيَر ذاتي التأملي والمستعيد لمحطتين رئيستين في صِباه وشبابه الطريق إلى سان جيوفاني (4)، يقومُ إيتالو كالفينو بتسريب جزء من جُملة عابرة، كأنها الخَطْف، عندما يتحدّث عن لحظة غضب اعترتهُ في صِباه، فنراه يقول: الغضب الذي ما زالَ مستمراً في هذه الصفحات غير الصادقة تماماً! بعدها، نراه يفتتحُ فصلاً جديداً أسماه ذكريات معركة بهذه الجملة التقريريّة: ليس صحيحاً أنني نسيتُ كلَّ شيء، فما زالت الذكريات هناك، مختبئة في العقل المشوّش، في طبقة الرمل الرطبة المترسبّة في قاع نهر الأفكار. (5) كما نرى خوزيه ساراماغو، في الكتاب المشار إليه سابقاً، يُصَرِّحُ في الصفحة 139 بما يقارب التنظير: عند الحديث بدقة بالغة، أعتقد أن ما تُسمّى بالذكريات المزيفة أمرٌ لا وجود له، وأن الفرق بين هذه الذكريات والذكريات التي نعتبرها صائبة وآمنة يقتصر على مسألة بسيطة مرتبطة بالثقة، الثقة التي لدينا في كلّ موقف في هذا الغموض الذي لا يمكن تصحيحه، والذي نطلق عليه اسم اليقين. .. ثم، وفي نهاية الصفحة التالية يَخْلُصُ إلى: هذه هي إذاً أقدم ذكرياتي. وربما تكون مزيفة...! حيال ذلك نجدُ أننا فقدنا براءة قراءاتنا الأولى؛ القراءات التي أسْلَمَت قيادها لفكرة الصدق، بمعنى المطابقة، في استعادة الكُتّاب لماضيهم. وإنها لفكرة مُسبَقة ومريحة وباعثة للإطمئنان بكلّ تأكيد، إذا ما تأملنّاها الآن. وربما لأنها، أيضاً، لا تصطدم بالمُثُل الأولى والمؤسِسَة لطفولتنا المتصفة بالتبسيط. لكننا، مع نضوجنا المفترَض كلّما واصلَ عَدَّادُ العُمْر حركةَ دورانه، نجدنا نقعُ على لذاذات ومَسرّات واستجابات لرغبات تبدو متعارضة مع تلك المُثُل، تكمنُ تماماً في الانحراف باتجاه إعادة تخليق ماضينا، والتلاعب به! وإني، عند تأملّي بهذا الفعل، أشهدُ بأنَّ طفلاً عابثاً، لكنه ما زال يحتفظُ ببراءته الأولى، يواصلُ حياتَهُ الطبيعيّة كلّما أعْمَلَ خربشات خياله الطليق في الكائنات التي يرسمها، والكون الذي يشكّلهُ على أوراق كتابه. أوليسَ هو نفسهُ الذي كانَ يجعلُ من أسفل سرير أبويه منزلاً مُلْكاً له، ووكراً سِرّياً يُخبّئ في أركانه كنوزَه الزائفة؟ أوليسَت هي نفسها التي كانت تُنْطِقُ دميتها القماشيّة بحكاياتٍ تعرفُ أنها مختلَقَة، أو من بنات شرودها! أولَسنا جميعاً نهربُ من كِذْب خديعة الواقع بمعنى تنكّره ومخالفته لآمالنا، حين نكتبُ صِدْقَ ونقاء أخيلتنا البريئة! إنَّ ما لَفَتتني، وأعترفُ بأنه أعجبني وراقني أيضاً، لجوء غسّان زقطان إلى تثبيت صورة أُمّه الملتقطَّة داخل ديكور أستديو تصوير في بيت لحم، بالأبيض والأسود، غلافاً لكتابه الذي ألحقهُ بالروايةِ جنساً كتابياً له. كأنما أراد، ربما، (ولا يعنيني كذلك) في فعلته هذه، الإيحاء بأنَّ الفرقَ ليس كبيراً أو عظيماً بين تظهير فوتوغراف الكرتون البوزوتيف (الإيجابي الواقعي والبائن)، وسَواد فوتوغراف الذاكرة الفيلمي النيجاتيف (السلبي الخيالي والغامض)، لَمّا نبتغي مصارحة أنفسنا بما نحن حقاً، الآن، ونكون وحدنا! فالتجربةُ الحياتيّةُ، حين تُكْتَب بأثَرٍ رَجْعيّ، تفقدُ صِفةَ المواد القابلة للنَسْخ أو التقليد. إنها تخضعُ، داخل ورشة الكتابة الاستعاديّة، لآليات التحويل. إنها تجربة، باختصار، تتحوَّل ولا تُنْسَخ أبداً بأناسها، وأماكنها، وحتّى باللحظات التي كانت نقاط تحوُّل في حيواتنا. ونحن نلتزمُ بذلك، بوعيٍّ أو بدونه، إنْ باشرنا كتابة السيرة بنيّةٍ وتصميم، أو التففنا عليها وكتبناها (جزئيّاً أو كُليّاً) على هيئة أجناسٍ أدبيّة سرديّة أخرى.. كالرواية مثلاً. وإني أنتهزُ فرصة هذا اللقاء، الصريح والهادف التقاط المعرفة مهما صَغُرَت، وتداولها في ما بيننا، لأشيرَ إلى أنّ رواياتي الثلاث كانت محاولاتي في استعادة جُملة محطّات في حياتي. حاولتُ استعادتها لا لأسجلّها بنيَّة التوثيق الأرشيفيّ، الشخصي والعام، بقدر ما كنتُ حيالَ عمليّة تأملٍ لها، بالكتابة دون غيرها، أحاولُ منحها معنىً كان غائباً عنها.. أو عنّي.. أو عن كِلينا، بالأحرى. --- (1) مي التلمساني، للجنّة سور يوميات، دار شرقيات، القاهرة، 2009. (2) غسان زقطان، عربة قديمة بستائر رواية، الأهليّة للنشر والتوزيع، عمّان، 2011. (3) خوزيه ساراماغو، الذكريات الصغيرة سيرة ذاتية، ترجمة أحمد عبد اللطيف، الهيئة المصريّة العامة للكتاب، سلسلة الجوائز، العدد 28، 2008. (4) إيتالو كالفينو، الطريق إلى سان جيوفاني، ترجمة أمل منصور، المؤسسة العربيّة للدراسات والنشر، بيروت، 1998، ص 27. (5) المصدر السابق، ص 59.