يطرح كتاب (الوجيز في تاريخ الموت) لمؤلفه دوغلاس ج. ديفيس (ترجمة محمود منقذ الهاشمي)، جملة من الأسئلة التي طالما أرّقت الإنسان، منذ وجد نفسه في الحياة وحتى اليوم منها: من أين أتى، وإلى أين يذهب بعد الموت، وهل هناك آخرة، ماذا تشبه وكيف عليه التأهب لها ؟ وإذا كانت حياته هي تمام زمنه، كيف له أن يعيشها على أحسن حال، خاصة وهو يعلم أنه سيموت، رغم محاولاته الهرب من الموت ومحاربته له، بكل ما يملك من وسائل الوقاية والعلاج، ذلك لأن الإنسان في الأساس، مسكون (كما يقول مترجم الكتاب) بهاجس تجاوز الموت، ويأمل في أن يستمر في الحياة على نحو ما، ويتألم لفراق مَن أحبهم، ويخاف من تجربة الموت. ينقسم الكتاب إلى ثمانية فصول، تتناول مسألة الإجابة عن: مشكلة الموت في ملحمة جلجامش، قصة آدم وحواء، يسوع المسيح. كما وتقدم الفصول نظرة عامة إلى: الأديان السماويّة والأديان الناشئة في الهند والأساطير اليونانيّة والرؤى الدنيويّة المعاصرة. وتؤكد أن الموت مستقبلنا، فهو يؤثر في كل منا، لا سيّما ونحن نواجه موت الذين نحبهم، ونميل إليهم، والمشاهير الذين كانوا لنا أصدقاء في الخيال، وجيراننا والذين نكرههم، فألم الأسى قاسم مشترك عند الكثيرين ممن يشتركون في تجربة الحزن على الفراق، لكن إيمان غالبية البشر بنوع من الحياة بعد الموت، يجعلهم مرتبطين بحياتهم الحالية، بكثير من الرضا والاطمئنان. إن الموت (بحسب الكتاب) من أقوى التحديات للمعنى والمصير البشريين، إن لم يكن أقواها على الإطلاق. والأمل يُشكّل الدافع البشري إلى المعنى الذي يغذي العمليات التي تسبب الإحساس بالتسامي في الحياة، رغم أن موت الآخرين يُشكّل اللحظات الأولى التي يكون فيها الأفراد ميالين إلى الشعور بفقدان السبب في وجود الحياة، ولانعدام قيمة الحياة. إذ إن غالبية الناس يتساءلون: لماذا نستمر في الحياة في حين أن الذين جعلوها ذات قيمة مَضوا؟ ما يحدث هو أن أعضاء المجتمع الأقل ابتلاء، ينقلون في زمن الفجيعة إحساسهم بالأمل إلى البائسين، وفي أثناء الطقس المأتمي، يقص أناس قصصاً عن معنى الحياة، ويؤدون طقوس التجاوز. وعبر النشاط الاجتماعي، يتجلى الأمل عبر أشكال كثيرة، منها: الأساطير، العقيدة، الشعائر الدينيّة.. وحتى في الطقوس الدنيويّة. يُشير الكتاب إلى ارتباط الموت بالهويّة الإنسانيّة بوصفها جزءاً من رؤية العالم، لأن المعتقدات توجد لتفضي بالناس إلى ما وراء الموت. والأمل بموجب الهويّة الإنسانيّة يقاوم الموت. أما الأسى فهو استجابة إنسانيّة رئيسيّة للموت الذي يراه (فرويد) مترسخاً في رغبة إنسانيّة في العودة إلى المادة العضويّة التي منها انبثقنا جميعاً، واعتبر غريزة الموت قوة سلبيّة وتدميريّة في كنهها، تتنازع مع الإبداع الإنساني، والرغبة في الحياة التي تطرح فجيعة الموت، والسؤال حول انعدام معناها. بالمقابل (كما يؤكد الكتاب)، فإن الأرض ستموت، وكذلك كل حياة عليها، سواء عبر السخونة أو البرودة. وعندما يصل الأمر إلى معنى الحياة، نجد أن البشر يعيشون عيشات غريبة، ويوماً بعد يوم، يؤدي المجتمع وظيفة مؤرخي القيم والمعتقدات التي تبدو في لحظة متينة جداً، وفي لحظة أخرى تضمحل وتصير خواء. ويمكن للأسى أن يُحدث هذا التحوّل، كما يمكن للتأمل الفلسفي، أو فقدان الإيمان، أن تُحدثه. يرى مؤلف الكتاب، أنه، ومن حيث إننا كائنات اجتماعيّة فإن التفكير والأحساسيس التي اعتملت في دواخلنا، إزاء هذه القضية: الخوف من الموت وهاجسه، نبعت من إحساسنا في كوننا مهمين في الحياة. إلا أن أكبر وأخطر التحديات على هذا الصعيد، أننا نعيش ونحن عارفون بأننا سنموت. ويخلص المؤلف إلى أن تاريخ الموت هو تاريخ مشكلة العاطفة والأمل، الخوف والتوق إلى الحب والعرفان له بالجميل، واليأس لدى خسارة مسعى، والاهتمام بشريكنا الزوجي وذريتنا: أحاسيس ليس لها نظير، تُنقل في أشكال متبدلة، وثقافة بعد ثقافة، وجيلاً بعد جيل، ضمن حياة واحدة.