استيقظت بعد العاشرة بقليل، أعددت فنجان القهوة، جلست بجانب النافذة وأنا احتسي القهوة، لكي اختبر الطقس وأقرر ماذا أرتدي، فالطقس في هذا الوقت من السنة متقلب. ارتديت ملابسي وخرجت، يبدو أن ما ارتديت كان مناسباً. في طريقي إلى المعهد الفرنسيّ، كان يمشي بجانبي رجلان يبدو أنهما من الطبقة الكادحة. فملابس أحدهما تنضح ببقع طلاء، والأخر يغطيه الغبار. صرير الرياح يهذو كرجلٍ ثمل يصيح تارةً ويصمت تاليها، الشارع كله مبتل، فهنا من عادات الصباح اليومية أن يرش الماء في الشوارع. غاصت قدمي في إحدى برك الماء المتجمّع، رفعتها غاصباً أريد أن ألعن الماء وعادة رشّ الماء، ولكن، قبل أن أفتح فمي، سرق سمعي حديث ذانك الكادحين، يحادث أحدهما الآخر يقول له: "الثورة هي اللي خربت بيتنا". فيشير الآخر برأسه مؤكداً، ويخبره أن غلاء المواصلات كان مجرد البداية وأن كل شيءٍ قد ارتفع ثمنه وراتبه لم يتحسن. لم أقصد التنصت، ولكن حديثهما استمرّ في لوم ثورة أوصلتهما إلى هذه الحال. تبدّد غضبي، وصار ابتلال قدميّ نزهة عادية بالمقارنة مع تعب حديثهما. أكملت طريقي ولم أمعن أكثر، فهنا في مصر تصبح القصص المؤلمة عاديةً، وكلّ قصةٍ تروي فساداً آخر وقد نخر في جسد الشعب. لجوءٌ يغالب الطمع أدخل الأن عامي الرابع في أرض الكنانة، وما أزال أذكر جيداً أول يومٍ لي هنا. كنا قد اتجهنا أنا وأخي من المطار إلى منزله الذي أقفله قبل شهرين لعطلة الصيف. وصلنا إلى منزله، ووجدنا عائلةً تسكن هناك. بعد ساعات عدة من البحث، اتضح أن صاحب المنزل وجد صفقة أفضل للبيت، يؤجره لإحدى العائلات السورية اللاجئة، فاستغل حاجتها. لم يكن مالك المنزل الطاعن بالسن يشعر بالذنب لما فعله. منذ اليوم الأول، كانت تبدو مِصر لي على أنها فترة جديدة في حياتي، مختلفةً عن سابقها. يوم جمعة جديد في بلاد النيل. من العادات التي كنا قد انتهجناها أن يكون يوم الجمعة هو يوم المنسف، وهو الطبق الشعبي في البلاد التي ترعرعت فيها. يمر الوقت ببطء ونحن ننتظر أن يصل الطعام. صياحٌ من صديقي في السكن بسبب تكوّم الأطباق غير المجلية. ملابس متسخة ونظيفة تملأ الغرفة، فوضوية الاستقلال تبدو جليةً في منزلنا. دقّ جرس الباب فسارعت لفتحه، لابد أن طعامنا قد وصل أخيراً. دوران المفتاح لتحرير القفل، يعقبه احتكاك الباب بالأرضية، ثم أُزيح الباب من أمامي لأجد طفلاً بنصف طولي يحمل أكياساً بضعف حجمه، يرتدي قبعةً سوداء، عيناه خضراوان تملؤهما البراءة، يتصبب عرقًاً، يبدو أن الأكياس قد أعيته، وقال لي بلهجة شامية: "عمو تشتري كعك؟". كان صيف العام 2012 هو صيف الهجرة السورية إلى مِصر، فقد شغل محمد مرسي حينها سدّة الحكم، وسهّل قدومهم وأعطاهم بعض الحقوق التي يحظى بها أهل البلد، وعلى رأسها التعليم المجاني. لم يستمر هذا التساهل كثيراً، فخلال أقل من عام، كان مرسي ونظامه قد رحلا، وأتى النظام الجديد ليزيد تضييقه عليهم مع موجة من التحريض الإعلامي. طمع التجار كان قد التهم مدخرات اللاجئين القليلة، ربما لم تكن مصر أفضل خيار لهم ولكنهم مع الوقت أثبتوا أنهم يستطيعون الصمود والعيش بعرق جباههم، في دولة ذات نسبة بطالة تناهز الخمس وعشرين في المئة من الطبقة العاملة، بحسب إحصائية البنك الدولي. اللجوء طعمه مرّ، لكن اللاجئ يتحول من عالةٍ على الدولة إلى شخصٍ مستقلّ ومنتج، وتجارب الشعوب التي لجأت أثبتت لنا قدرة إبداع الرزق على الخروج من رحم المعاناة أحياناً. فكّر مرتين قبل أن تكره السياسة تظلم الشعوب. هنا في مصر، أتى التوّجه السياسي بعد حكم نظام مرسي كارهاً للفلسطينيّ ومحرّضاً ضده، في الحدود والمعابر، في أقسام الشرطة، في التلفاز والإعلام. كانت موجة الكره والتحريض تجوب كلّ الأطياف وتنتشر، وكان الشعب المصري قد بدأ يتجرع تلك السموم، يوجّه اللوم والكره لعامّة الفلسطينيين، ولم يعد يقتصر على قسمٍ دون آخر. في مواقع التواصل على الشبكة العنكبوتية، تشهد النقاشات بانعدام الأخلاق بين الطرفين. كان ذاك الكره قد تسرّب إلى النظام التعليميّ والأكاديميّ، بل وصل أيضاً إلى مالكي الشقق الرافضين إيجار الفلسطينيّ وكأنه مرضٌ يخاف أن يتفشى في شقته. في ظل تلك الأجواء، وفي برمجةٍ مسبقة تنتقص من المصري، كانت نظرتي إلى هذا الشعب قد بدأت تتحول إلى كرهٍ أعمى، لم أعد أرى فيهم خيراً، فكما يكرهونني سأكرههم، لم أظن أن نظرتي لهم قد تتغير يوماً. رائحة عطرٍ قوية، سترة البدلة الكحليّة الأنيقة، قُبلٌ تتناثر على خدود مَن في المنزل، دعاءٌ بسلامة الوصول. غادرت المنزل لأذهب إلى المطار فقد انتهى العام الثاني لي في مصر. نزلت إلى الشارع، على كتفي حقيبةٌ صغيرة، وأجرّ على الأرض المكسّرة حقيبةً كبيرة. أوقفت سيارة أجرة، اتفقنا على المبلغ، هذه المرة يبدو السائق شاحباً لا يرغب بالحديث على عكس العادة. تبدو الفرصة متاحة للقليل من القراءة. أخرجت كتاباً من الحقيبة كنت قد اشتريته لعلمي بارتباطه بمجزرةٍ، أو بالأحرى بمجازر. منذ أولى صفحاته، علمت أن الكتاب لن يخرج من يدي، وأنه سيكون هنالك الكثير من القراءة لا قليلها خلال الرحلة. استمريت بالقراءة حتى وصلنا المطار، وثم في قاعة انتظار الطائرة. تأجيل موعد الطائرة جعلني فرحاً لأني سأستمر بالقراءة من دون مقاطعة، وتعمّق انشغالي بها في الطائرة حتى نادى الطيّار معلناً بدء الهبوط في "مطار الملكة علياء" في عمّان. لحظتها، كنت أقرأ: "قالت وصال: رقيّة، لم أرَ بحر يافا منذ غادرنا البلد". بتلك الجملة، أنهت رضوى عاشور الفصل الثالث والخمسين من رواية "الطنطورية". لم ترّ رقيّة فلسطين منذ غادرتها وهي طفلة. بضعٌ وخمسون فصل تصف رحلة اللجوء بمرارة تفاصيله، وصفٌ دقيق للعادات والثقافة، لرائحة البحر ورائحة الخبز، الأهازيج والأفراح والمجازر والأتراح. عندما قرأت تلك الرواية، لم أكن أعلم أن رضوى مصرية. كنت متأكد من أنها فلسطينية. ذاك الوصف الدقيق الذي سرق عقلي لابد أن يكون من امرأةٍ عاشت تلك الأحداث. عندما علمت بمصريّتها، فهمت كيف أن القلب والعقل قد يعيشان ما لم يعشه الجسد. أصبحت أخجل من مهاجمة شعب مصر، وأحرص على عدم التعميم في كلامي عن هذا الشعب. كانت تلك الرواية هي أول ما دفعني لأرى الأمور من زاويةٍ أخرى، إذ يقول سليمان العودة: "نعم أتغيّر، لأني لو كنت أقول وأنا في الأربعين ما كنت أقوله وأنا في العشرين، فمعناه أن عشرين سنة من عمري ضاعت سدى". كان لهذه المقولة أثرٌ كبيرٌ في قلبي، فقد ساعدتني لأتحرّر من أفكارٍ عديدة خاطئة، وعلى رأس تلك الأفكار، كرهي لشعب مصر. في كلّ يوم أقضيه هنا، بت أتعرف على المزيد من روعة هذا الشعب. هو شعبٌ بسيطٌ جميل، لا يقيم في العنصريّة ضد شعبي، ولكنه، مثل كلّ شعوب العالم، يتعرّض لحركة سياسية إعلامية تؤدي دوراً كبيراً في صقل الوعي العام. ولكن، في ظلّ موجة التحريض الشديدة، كنت قد رأيت أمثلةً عديدة تثبت أنه مهما حاول الإعلام المسيّس السيطرة على الوعي، فإن هنالك موجة مضادة يقودها المثقفون العادلون، هذه الموجة كانت قد جعلتني أخجل من نفسي، هذه الموجة أجبرتني على أن أحترم كلّ مصر. النقاش القديم لن يتغير أصابعي التي حفظت أماكن الحروف على لوح الزجاج المضيء، تسارع لكتابة فكرةٍ أريد إيصالها. إضاءة شديدة تسود، عضلة عيني اليمنى تحاول أن تنقبض بشكل لا إرادي بسبب إجهادها، يبدو أن لا شيء يوقف سيل الجمل المتدفق. بعد نصف ساعة، بدأ ظهري بالتشنج، وضعيّة جلوسي لم تكن الأنسب، لم أهتم لها كثيراً، فإيصال فكرتي كان أشد إلحاحاً عليّ من إجهاد عضلة عين أو تشنج عضلة الظهر. لكن فكرتي غالبًا لن تصل، فكلٌّ منّا قد تبرمج تبعاً لأفكار ثابتة داخله، تغييرها بالنقاش يكون أحياناً أصعب من تحرير فلسطين. قد يأتي النقاش عن القدر، فهو من أعقد ما يطرحه الدين، أو لربما نقاشٌ يطعن بأهليّة معاوية، أو نقاشٌ يلوم ياسر عرفات ويهاجم تقديس صدّام.. في الحقيقة، لا يهمّ ما هي فكرتي ولا يهمّ ما هو النقاش، لا يهمّ إن كان نقاشاً إلكترونياً أو نقاشاً شفوياً، النقاش الذي لا يصل إلى حلّه هو النقاش غير المنطقيّ، المرتبط بالأمور غير الملموسة، الرأي، العاطفة، الدين، القومية، الوطنية، وغيرها.. الرجلان الكادحان، صاحب المنزل الطاعن بالسن، الطفل الذي يبيع الكعك، أصحاب النقاشات الفاسقة، المثقفون الطاهرون، أنا، وأنت.. لن يتحسن حالنا يوماً بنقاشٍ عقيم ولا بقتالٍ أخوي، لن يتغيّر واقعنا إذا صنّفنا أنفسنا ولمنا بعضنا. فقبل كل شيء، نحن لم نختر أين نولد وبماذا نبرمج، نحن نختار كيف نتعامل مع الأخرين، نحن نختار أن نحترم الاختلاف ونتقبّله، ثم نختار أن نكون شركاء في الإنسانية. نظرت حولي وقلت لنفسي: أنظر، استوعب، ضع نفسك في ذلك المكان، إفهم خياراتك وخيارات الأخر، أسبابك وأسبابه /ا، ثم تكلّم... قبل أن تأتي الحياة بجديدٍ يعيد صقل هذه الأفكار والاختلافات.