لا يستعمل الدكتور ( بود ) في كتابه كل تلك المصطلحات العلمية، استعادة الذات، العمل علي الذات، الوضعيات، الحركات، ولا المعادلة التي غالبًا ما تكرر ذكرها في النصّين والتي كنت أطبعها في كل مرة دون أن أفهمها : " مفتاح أوكتاف ". كان يسرد ببساطة ما عاناه في شبابه من قلق لا يختلف عما أعانيه. والطريقة التي توصّل من خلالها إلي تخطّي تلك الحالة. لم أشعر أنني أقرأ، بل شعرت أنني أستمع إلي صوت مألوف يهمس في أذني. ولد الدكتور ( بود ) في ( لامبث ). حيّ فقير في لندن لا أعرفه، فيما عدا بعض شوارعه التي رأيتها من نافذة القطار مباشرة قبل الوصول إلي محطة ( واترلو ). في الساعة السابعة بالضبط، خفت أن يختفي ( ميشيل كيروريدان ) في زحمة المسافرين النازلين من قطار ( فرساي ذ شانتيي ). انتهيت بالاهتداء إليه من بعيد، بسبب طوله وتلك الطريقة المميزة في حمله حقيبته البنية الكبيرة المنزوعة اليد، وكأنها كلب أو طفل. استقلينا المترو. كنا واقفين، محشورين إزاء بعضنا البعض، لكن هذه المرة، لم أعد أشعر بأقل نوع من الهلع. فهناك من يرافقني، والكتاب الذي أتممت قراءته في الليل زوّدني بهدوء بالغ. نزلنا في محطة ( كونفوسيون ). قال لي ( كيروريدان ) إن (جنفييف بورو) تعيش قريبًا منه هنا، في أول شارع (دومباسل). لاحقًا، كثيرًاً ما ترددت علي منزل ( جنفييف بورو ) سالكة التفافات معقدة أكثر فأكثر لتجنّب المسالخ والشوارع التي أخشي تواجد اسطبلات تجار الأحصنة بها. مازلت أذكر كيف كنت بعد سينما ( فرساي ) مباشرة أسلك دربًا مشجرًا تشكّل أوراق الأشجار فيه قبّة تمتد ربما علي طول سور مستشفي ( فوجيرار ). أذكر دربًا يعبق برائحة الزيزفون. في السنوات اللاحقة، وحتي هذا اليوم لم تتسنّ لي فرصة المرور ثانية في ذلك الحيّ. اختفت المسالخ. قد يكون مستودع الحيوانات التائهة ومخزن الأشياء المفقودة وكنيسة سانت انطوان دوبادو مازالوا موجودين. وعندما أفكر في الأمر، يبدو لي أن ذلك هو الحيّ الوحيد الذي كان يمكن لي أن ألتقي فيه بجنفييف بورو والدكتور ( بود ). كانت البناية تحمل رقميّ 5 و 7. بناية واضحة، ضيقة، يفصلها عن الشارع سور وراء باحة صغيرة. دخلنا يمينًا من باب البناية رقم 7. تقدّمني ( كيروريدان ) علي السلّم وهو يحتضن بيديه الاثنتين حقيبته البنية. فتحت لنا ( جنفييف بورو ) بنفسها. سمراء ترفع شعرها. بدا لي وجهها في البداية حازمًا، بسبب عتمة المدخل. سلكنا رواقًا ثم دخلنا يسارًا إلي غرفة تنيرها مصابيح منخفضة. الستائر كانت مسدلة. وقف رجل عرفت من طوله أنه ذاك الذي كان برفقة (ميشيل كيروريدان ) في صورة ( ابريل / مايو، روكولنغ ). تجمّد في مكانه للحظة، تقريبًا في نفس وضعيته في الصورة عندما كان ممسكًا بكتابه المفتوح. ثم أشار لميشيل بذراعه والتفت نحوي. - اسمي ( جياني ).. سعيد جدًا بلقائك.. كان صوته أشد انخفاضًا من صوت ( كيروريدان ). صافحته دون أن أخبره باسمي. كان يرتدي بذلة قديمة من المخمل الرمادي. ابتسمت لي (جنفييف بورو ). بدت لي أصغر مما ظننتها في المدخل، فتناقضا الآن شعرها المشدود بحزم ونعومة وجهها. عيون خضراء. تلبس فستانًا خفيفًا نبيذي اللون. لا ترتدي أي مجوهرات أو خواتم، سوي سوار في معصمها. - حدثني ( ميشيل ) كثيرًا عنك، وأشكرك علي العمل الذي أديتيه لنا. كانت تتكلم بصوت صاف، مع لكنة باريسية خفيفة. جلس ( ميشيل كيروريدان) و(جياني ) متربعين علي السجادة الصوفية. - تفضلي بالجلوس. قالت لي والابتسامة لا تفارق معها مشيرة إلي السجادة. علي كل حال، لم تكن هناك مقاعد في الغرفة فيما عدا أريكة ظهرها من الجلد، هناك، بين الستائر المسدلة والمكتب المصنوع من الخشب. تربعت هي أيضًا، محتفظة بجذعها مستقيمًا جدًا، شكّلنا علي تلك السجادة دائرة، نحن الأربعة، وكأننا كنا علي وشك أن نلعب لعبة لاأعرف قواعدها بعد. - سنقوم بقراءة - قالت جنفييف بورو بصوتها الصافي هذا شيء بسيط وأساسي للاحتفال بانضمام صديقتنا الجديدة. فتح ( ميشيل كيروريدان ) شنطته البنية التي كان قد وضعها بجانبه وأخرج منها بعض الأوراق التي ناولها لجياني : - اقرأ أنت. قال له. بدأ ( جياني ) القراءة بصوت هاديء له رنين خاص يصلح لأن يكون صوت ممثل في المسرح الكلاسيكي. اكتشفت أنه كان مقطعًا من كتاب الدكتور ( بود ). يحكي عن حلم رآه عندما كان تقريبًا في الحادية عشرة من عمره. كان، حتي ذلك الوقت، طفلاً ككل اطفال (لا مبث)، له أهل يشبهون كثيرًا الأهالي الآخرين. كان ممزوجًا بلون البيوت القرميدي، ولون المخازن الرمادي ومستنقعات المياه علي الأرصفة. في تلك الليلة، حلم أنه يحلق فوق الحيّ علي ارتفاع منخفض سمح له بأن يتعرف، من أعلي، علي المارة، والكلاب، والبنايات التي يسكن فيها زملاؤه، وكل مفترقات الطرق المألوفة لديه. كان صباح يوم أحد حتي إنه رأي أباه يستند بكوعيه إلي النافذة. ومن حوله، أحياء لندن الأخري، التجمهر اللانهائي للحشود وللسيارات. أخذ ( جياني ) يقرأ أبطأ فأبطأ. يسكت بين الجمل، حتي أصبح إيقاع النصّ أشبه بإيقاع قصيدة شعر. انخفض صوته حتي لم يعد غير تمتمة تهدهدني. كانت ( جنفييف بورو)، التي بقي جذعها بنفس استقامته، تتأملني بعينيها الخضراويين وتحيطني بابتسامتها الجذابة. بينما تعبث يداها الناعمتان الطويلتان ذات الأظافر المشذبة تمامًا بصوف السجادة. أبقي ( كيروريدان ) رأسه منخفضًا وهو معقود اليدين، أنهي ( جياني ) قراءته وأطبق علينا الصمت، وكأن الاثنين الآخرين يحاولان التقاط صدي صوت القاريء، ومن خلاله، صوت الدكتور ( بود ). - هل هناك ما تعذر عليك فهمه ؟ سألتني ( جنفييف بورو ). عكس صوتها الكثير من الاهتمام بي لدرجة أن هذا السؤال أخجلني أكثر. كان يجب أن أجد سؤالاً بأي ثمن، انتهيت بأن تمتمت : - لم أفهم جيدًا " مفتاح أوكتاف ". استدار الآخران نحوي وجعلا يتأملانني بعطف، فتش ( كيروريدان ) في حقيبته وأخرج النصّ الذي طبعته، ربما ليتأكد مما كان مكتوبًا عن " مفتاح أوكتاف ". - الأمر بسيط جدًا.. سأشرح لك. وشيئًا فشيئًا، نوّمتني عينا ( جنفييف بورو ) مغناطيسيًا، لم أعد أسمعها، بل أتأمل حركة شفتيها، أصابعها التي تداعب صوف السجادة بطريقة آلية. لم أسمع سوي كلمة واحدة لفظتها كثيرًا : " انسجام ". توقفت عن الكلام فأومأت برأسي. - هذا كل مافي الأمر.. الآن أنت تعرفين كل شيء تقريبًا عن مفتاح أوكتاف. قال لي جياني : هل لديك أسئلة أخري ؟ - أعتقد أن هذا يكفي لذلك المساء. قالت ( جنفييف بورو )، وقامت بحركة مرنة وغادرت الغرفة. بقي الإثنان الآخران متربعين، وأنا، لم أجرؤ علي الحركة. - إذًن. هل أنت سعيدة في اجتماعنا الأول ؟ سألني ( كيروريدان ). الآخر كان يتصفّح الأوراق التي طبعتها. - أنت تطبعين جيدًا جدًا، قال لي. أعتقد أنك ستصبحين سكرتيرة المجموعات. - بل أكثر من سكرتيرة، قال( كيروريدان ).أشعل سيجارة ( جولواز ). فوجئت بأن التدخين مسموح به خلال الاجتماعات. كنت قد تخيّلت طقوسًا ومراسم احتفالية أكبر. عادت ( جنفييف بورو ) إلي الصالون وفي يدها صينية وضعتها علي السجادة بيننا. ملأت الأكواب الأربعة إلي المنتصف. شاي بالنعناع، لكن ذو طعم مميز لم أكن أعرفه، وكأنها أضافت إليه شيئًا في السر. كانوا يشربون علي مهل، دون أن يتكلموا. نظرت حولي. إلي يسار المكتب، ملأت أرفف المكتبة زاوية الغرفة كلها. كتب ذات أغلفة قديمة. عند أسفل المكتبة، أريكة مكسوة بالمخمل الرمادي. عكس المصباح المثبت علي أحد الأرفف ضوءًا حيويًا جدًا علي الأريكة. تخيلت أن ( جنفييف بورو) تتمدد هنا للقراءة. وربما هذا ما يفعله الدكتور ( بود ) أيضًا عندما يأتي إلي باريس. وقف الجميع. صافح ( ميشيل كيروريدان) و ( جياني ) جنفييف بورو بطريقة مراسمية بعض الشيء، قائلين لها إنهما سيحضران اجتماع مساء الجمعة. كنت قد تأهبت للمغادرة معهما عندما أشارت لي ( جنفييف بورو ) بأن أبقي. ودّعني ( ميشيل كيروريدان ) علي أن نلتقي مجددًا يوم الجمعة أو ربما قبل ذلك في المقهي وهو يحتضن حقيبته البنية. رافقتهما حتي باب المدخل. وأنا أنتظر واقفة، لوحدي، وسط الغرفة. صفق الباب. عادت ( جنفييف بورو ) إلي جانبي، محيطتني بابتسامتها وبعينيها الخضراوين. - استرخي يا صغيرتي.. تبدين حزينة جدًا.. تمددي علي الأريكة. لم أسمع في حياتي صوتًا مهدئًا لتلك الدرجة. تمددت علي الأريكة. وجلست هي خلف المكتب. - دعي نفسك. أغمضي عينيك.. سمعتها تفتح درجًا ثم تغلقه. ثم أطفأت مصباح المكتبة. بهذا أصبحنا في شبه عتمة وهي تجلس بجانبي، علي الأريكة، تدلك بلطف جبهتي وتحت حاجبي، جفوني وصدغي. خفت أن أغفو فأبوح لها في نومي بما كنت أحتفظ به لنفسي منذ زمن طويل : رونيه، الكلب، الصورة الضائعة، المسالخ، صوت حوافر الأحصنة التي توقظك في الفجر. وهاأنا أجد نفسي متمددة علي أريكة، في 7 شارع دومباسل، لم يكن ذلك صدفة. إذا كنت أريد أن أعرف المزيد عن الحياة، عن النور والظلال، كما يقول دكتور ( بود )، فمازال عليّ أن أبقي لبعض الوقت في الحيّ. صدرت عن دار ميريت ..وتصدر طبعة ثانية منها خلال أيام