مع وداع كل عام سينمائي، يأتي التقييم للأفلام، ما بقي في الذاكرة وما لفه النسيان، وفي ما يلي تقييم لإنتاجات 2015 السينمائية على الصعيدين العربي والعالمي، وتوضيح معايير اختيارها، انطلاقا من الأفلام الأجنبية فالعربية. أفضل الأفلام الأجنبية فيلم “سيدة في شاحنة” للمخرج نيكولاس هايتنر وهو مقتبس عن مسرحية الكاتب آلان بنيت، قامت ببطولته الممثلة البريطانية الكبيرة ماغي سميث (81 سنة)، ويعتمد الفيلم على حبكة تقوم على أحداث حقيقية وقعت للكاتب المسرحي آلان بنيت الذي يقوم بدوره في الفيلم الممثل ألكس جيننغز. وهو يتميز برونق وسحر السينما اللذين يكمنان في القدرة على تجسيد الأحداث في إطار المكان؛ الانتقالات المحسوبة في الزمن، التلاعب بالشخصيات، أي التصوير الباطني فيها، التمثيل والديكور، الضوء والصمت والموسيقى والمونتاج. وتدور قصة الفيلم حول امرأة اختارت العيش داخل شاحنة صغيرة، وأرغمت الكاتب آلان بنيت بقوة شخصيتها وإصرارها، أو بغرابة سلوكها الذي أثار فضوله ككاتب على القبول بأن تضع شاحنتها العتيقة بحديقة منزله في حي كامدن تاون اللندني المعروف. يمكن جدا أن تحصل ماغي سميث للمرة الثانية على الأوسكار. يستند فيلم “الحقيقة” إلى كتاب “الحقيقة والواجب: الصحافة الرئيس وامتياز السلطة” الذي تروي فيه ماري مابس قصتها، والآن بعد عشر سنوات من صدور الكتاب يأتي الفيلم ليضيف حلقة جديدة إلى سلسلة الأفلام الأميركية الشهيرة التي تناولت العلاقة بين الصحافة والسلطة، ويصور هزيمة الصحافة وكيف أصبحت مصداقية البرامج التلفزيونية الإخبارية على المحك بسبب عدم تحرّي الدقة والوقوع في الأخطاء والتقديرات المتسرّعة، وخصوصا أن المصدر الرئيسي للوثائق التي اعتمدت عليها الصحفية التلفزيونية ماري وابس، قام بتغيير شهادته أكثر من مرة، ممّا أدّى إلى فقدان الموضوع للمصداقية. ومع ذلك فالفيلم يشير إلى أن ماري، التي نشاهد الأحداث من وجهة نظرها، كانت مدفوعة أساسا بالرغبة في الوصول إلى الحقيقة. ينطلق الفيلم التسجيلي “لؤلؤة الماء” للمخرج الشيلي باتريشيو غوزمان، من موضوع شديد الأهمية هو موضوع الماء وأهميته في حياة البشر وخصوصا الشعب الشيلي، ورغم أن الشيلي تطل على المحيط الهادي كما يقول في الفيلم مستعرضا في بدايته لقطات رائعة للطبيعة والسواحل في أقصى جنوب القارة الأميركية، في إقليم بتاجونيا، إلاّ أنها لا تهتم باستخدام تلك المساحات الهائلة الساحلية ولا تلك المياه التي تحيط بها. ويروي الفيلم كيف لعب المستعمر الأسباني، من خلال احتكارات التنقيب عن المعادن دورا كبيرا في هدم حضارة السكان الأصليين، بل وإبادتهم. ويجري غوزمان في فيلمه مقابلات مصورة يستخدمها بطريقة شاعرية مقطعة على أجزاء فيلمه البديع، مع خمسة من السكان الأصليين مازالوا على قيد الحياة.. يروون له ما تحفظه الذاكرة مما تعرضوا له. المخرج البريطاني توم هوبر، يعود بفيلمه الجديد الجريء “الفتاة الدنماركية” الذي يتناول موضوع “الجنس المتحول”، من خلال الشاب الذي يجد نفسه في الجنس الآخر ويشعر بانتمائه إليه رغم وجود عضو جنسي ذكوري لديه مستندا إلى القصة الحقيقية لحياة الرسام الدنماركي إينار ويغنر أو “ليلي”، أول شخص يمر بعملية تحويل جنسي، من رجل إلى امرأة. والفيلم يدور في الفترة من 1926 إلى أوائل الثلاثينات، حين لم يكن هذا النوع من “عمليات التحول” قد أصبح معروفا أو شائعا بعد، كما لم يكن التعبير الصريح عن المشاعر الحقيقية للفرد من ناحية ميوله الجنسية قد أصبح شائعا كما هو اليوم. الفيلم الوثائقي البديع “سماني ملالا” للمخرج الأميركي ديفيز غيغنهايم وهو بورتريه تفصيلي شيق، لشخصية الفتاة الباكستانية التي أصبحت من مشاهير العالم ملالا يوسف زي التي تعتبر الأصغر سنا من الذين حصلوا على جائزة نوبل للسلام. قادت ملالا وهي في الخامسة عشرة من عمرها، حملة في بلادها، من أجل الدفاع عن حق الفتيات في التعليم، وجعلت تلك قضيتها الرئيسية في ما بعد، لقد جابت العالم للترويج لها ودعمها، لكنها تعرضت في بلدها باكستان، للكثير من التهديدات من جانب جماعة طالبان التي تناهض تعليم الفتيات بدعوى تعارض التعليم الحديث مع الإسلام. "رقصة الواقع" واقعية سحرية وكانت نتيجة تشبث ملالا بموقفها والتعبير عنه علانية وتوجيه الانتقادات إلى طالبان، أن أطلق مسلح ثلاث رصاصات عليها فأصابها في جبهتها إصابات خطيرة، وظلت بين الحياة والموت، قبل أن يتم نقلها إلى بريطانيا، حيث أجريت لها عملية جراحية، وتمكن الجراحون من إنقاذ حياتها لكنها فقدت السمع في إحدى أذنيها، كما أصبح جزء من وجهها عاجزا عن الحركة، يعاني من الشلل. يعود المخرج الأميركي باسم جيه سي شاندور في فيلمه الثالث “أكثر السنوات عنفا” ليؤكد موهبته الكبيرة التي كشف عنها، بوجه خاص، في فيلمه الثاني “كل شيء ضاع” الذي يعتمد على أداء ممثل واحد هو روبرت ريدفورد، بعد أن ترك وحيدا في قارب نجاة صغير يواجه مصيره في عرض البحر. هذا فيلم من أفلام الجريمة، ذو نكهة أخرى مختلفة، فهو لا يعتمد على الإثارة السطحية الخارجية، بل فيلم عقلاني إلى حدّ بعيد، يتعامل مع الشخصيات والأحداث، بحيث يخفي أكثر مما يظهر، بل يكتفي بالإشارات والإيماءات وبالحوارات التي تبطن غير ما تظهر، وخصوصا ما هو على لسان الشخصية الرئيسية في الفيلم، أبيل موراليس (أوسكار إيزاك) وهو مهاجر من دولة في أميركا اللاتينية نجح في تأسيس شركة لنقل وتوزيع الوقود السائل، لكنه أصبح يواجه اعتداءات من مصدر غامض، يتعرض لها سائقو الناقلات التي تنقل الوقود، وسرقة كميات هائلة من هذا الوقود في تلك السنة حالكة السواد (1981)، التي يقال إنها من أكثر سنوات القرن العشرين، ارتفاعا في معدلات الجريمة التي تشهدها مدينة نيويورك. يواصل المخرج الإيطالي باولو سورنتينو طرح الكثير من التساؤلات الوجودية في فيلمه الجديد “الشباب” الذي يدور داخل مصحة يتردد عليها المشاهير، تقع في منطقة جبلية خضراء رائعة الجمال في سويسرا. ونرى نزيلين يحظيان بعناية خاصة، أولهما موسيقار مرموق هو فريد بالينغر (مايكل كين) معادل بطل فيلم سورينتينو السابق البديع في “الجمال العظيم”، وهو رجل تجاوز الثمانين من عمره، وتوقف تماما عن التأليف الموسيقي وقيادة الأوركسترا تحت وهم أنه لم يعد يملك المزيد. والثاني صديقه القديم الحميم مايك (هارفي كايتل) وهو مخرج سينمائي جاء إلى المصحة التي هي أقرب إلى المنتجع السياحي، برفقة فريق من كتاب السيناريو، لكتابة موضوع فيلم جديد أخير يحلم بتقديمه، يحمل عنوان “آخر أيام العمر” على أن تقوم ببطولته بطلته القديمة وملهمته بريندا موريل التي تقوم بدورها نجمة هوليوود الشهيرة جين فوندا. في فيلمه الجديد “رقصة الواقع” يعود المخرج أليخاندرو خودوروفسكي إلى الماضي، إلى طفولته في الشيلي لكي يروي الفصول الأولى من حياته وهو في العاشرة من العمر، تلك الفترة التي تركت تأثيرها الكبير عليه، ويصور علاقته بوالده القاسي، العنيف، الذي كان معجبا بشخصية ستالين وكان يتقمصها، يريد لابنه الذي لم يتجاوز العاشرة من عمره أن يكون قويا، صلبا، يقهر الألم، يصمد أمام المخاطر، لا يبكي، ولا يضحك، يتحمل العذاب وهو صامد. وتعكس المشاهد الأولى من الفيلم هذه العلاقة التي ستترك تأثيرها القوي على شخصية خودوروفسكي ، لكن الفيلم ليس مجرد سرد واقعي صارم للسيرة الذاتية لخودوروفسكي ، بل عمل سينمائي خلاب ينتمي إلى الواقعية السحرية التي تميز الأدب والفن في أميركا اللاتينية: أدب ماركيز وسينما راوول رويز، وتختلط فيه التداعيات السوريالية من الذاكرة، بأجواء السيرك التي تشيع في معظم أفلام المخرج الكبير، وتتقاطع مناظر ومواقف ولحظات من التاريخ، تاريخ الشيلي، مع عرض لما يطلق عليه خودوروفسكي “السيكوماجيك” أو العلاج النفسي لعقد ومشاكل نفسية ترتبط بالصلات العائلية الوراثية. أفضل الأفلام العربية فيلم “القط” المصري يتجاوز فيه إبراهيم البطوط كل ما سبق أن حققه في أفلامه السابقة التي كانت تنتمي بشكل أو بآخر، إلى أسلوب الفيلم الواقعي، ليلحق في منطقة وسيطة بين الواقعية والرمز، بين ظلال التاريخ والواقع والأسطورة، وبين الرؤية النقدية الاجتماعية والتحليق الجامح في نطاق الخيال الذي لا يعرف حدودا، وبالتالي يتحرر البطوط تماما في “القط” من قيود الواقعية، ومن الحدود التي يفرضها التناول الواقعي ويترك لنفسه العنان لكي ينسج رؤية خاصة للعالم، من تجاربه الشخصية في الحياة، ويستمد من خياله السينمائي ليخلق واقعا آخر موازيا على الشاشة. ويتنقل الفيلم بين مستويين: مستوى الواقع المعاصر في مصر اليوم، ومستوى الرمز الخيالي المستند إلى التاريخ، ويدخل بالتالي إلى منطقة يفلسف فيها الواقع ويتطلع إليه بنظرة خاصة. والفيلم يدور حول الشر الاجتماعي: ما هي جذوره؟ ومن أين ينبع؟ وما سبب كل تلك الوحشية التي أصبحت سمة سائدة في حياتنا اليوم؟ وكيف يمكن تبريره وقبوله والتعامل معه؟ ذلك الشر الذي يتجسد في أشدّ أنواع العنف الذي يمارسه الإنسان ضدّ أخيه الإنسان. فيلم “مدام كوراج” للمخرج الجزائري مرزاق علواش وهو دراسة لشخصية، على غرار أفلام الواقعية الإيطالية الجديدة، فهو يعتمد على التصوير الحرّ في الشوارع والمواقع الطبيعية، يمتلئ باللقطات الطويلة التي تتابع بطله المراهق، بكاميرا مهتزة متحركة، مضفيا الطابع التسجيلي على الفيلم، كما توحي اللقطات المهتزة بالحالة العقلية للبطل الصغير الذي يكشف تدريجيا عن اضطرابه العقلي سواء نتيجة الإدمان أو المعاملة الداخلية الصامتة. ويستخدم مرزاق علواش شخصية الفتى عمر، للتعليق الرمزي على ما يحدث في الجزائر اليوم من ارتباط بين سياسة الإقصاء الاجتماعي، وبين انتشار المخدرات والدعارة والعنف، بين تعامل الرجال مع النساء، وبؤس الحياة الاجتماعية التي يعيشها الشباب. والمخرج لا يدين بطله الصغير، بقدر ما يصوره كضحية للثقافة السائدة في المجتمع، وللسياسة التي أدّت إلى وجود الملايين من المهمشين الذين يعيشون على هامش المدينة، بل ووصول العيش في المدينة إلى حافة اليأس الذي ينذر بالانفجار. “3000 ليلة” هو فيلم المخرجة الفلسطينية مي مصري الروائي الطويل الأول الذي يروي قصة امرأة فلسطينية شابة هي ليال تعتقلها قوات الأمن الإسرائيلية في نابلس (عام 1980)، ثم يتم استجوابها بشأن تقديمها المساعدة لشاب فلسطيني أصيب في اشتباكات مع قوات الاحتلال الإسرائيلية، وقامت بنقله بسيارتها. ويصدر على ليال حكم بالسجن لمدة ثماني سنوات، وتنقل إلى سجن إسرائيلي شديد الحراسة، لتقيم مع مجموعة من الفلسطينيات، والإسرائيليات المحبوسات بموجب جرائم جنائية، وهناك تتعرض إلى كثير من الضغوط من جانب سجانة إسرائيلية لتقبل التعاون مع إدارة السجن في التجسس على زميلاتها السجينات الفلسطينيات، ثم تكتشف أنها حامل ويتعين عليها إنجاب طفلها في السجن، وتضع ليال ابنها نور الذي يكبر تدريجيا داخل المعتقل الإسرائيلي، وتزداد الضغوط عليها لكي لا تشارك في الإضراب الذي تنظمه السجينات الفلسطينيات احتجاجا على مذبحة صبرا وشاتيلا. في فيلمه الجديد “ديكور” يتطلع أحمد عبدالله، بحنين واضح، إلى أفلام الخمسينات المصرية الكلاسكية (المصورة بالأبيض والأسود) وإلى نوع من الدراما النفسية، ربما على سبيل تحية لهذا النوع من الأفلام التي تركت بصمة واضحة على ذاكرة أجيال من مشاهدي السينما في العالم العربي، خاصة وأنه يستخدم أيضا اللونين الأبيض والأسود. ومع ذلك فالمشكلة أن الفيلم في الوقت نفسه، يغمز منتقدا رومانسية تلك الأفلام، مشيرا إلى ما يمكن أن تتركه من أثر على من يدمن مشاهدتها، تماما كما تفعل بطلة الفيلم مها (حورية فرغلي). إنها عودة إلى الاهتمام بالفيلم النفساني المجرد، على غرار بعض أفلام الخمسينات الشهيرة. في فيلم “بغداد خارج بغداد” يعود المخرج العراقي قاسم حول إلى الماضي، إلى تاريخ العراق، وتاريخ الشعر العربي في العراق، ليس ولعا بالتاريخ في حدّ ذاته، وإنما للتعبير عن تجربته الإنسانية الخاصة، تجربة العيش المحاط بالموت، وعن تأملاته في العلاقة بين الماضي والحاضر، ومغزى الغربة في الوطن وخارجه، وعذاب المنفى الذي يلقي بظلاله على تجربته. والمخرج من خلال ذلك، يستدعي الكثير من مخزون تجربته الشخصية، حيث يريد أن يستلهم من الماضي بقدر ما يرثي لما آل إليه الحاضر.