لست من النوع الذي يعشق المراثي وكتابة البكائيات، لقد كنت ولا أزال من الناس الذين يحتفون بأحبتهم وهم أحياء. وكذا فعلت مع الكتاب الذين قرأتهم وأحببتهم وأبرزتهم للضوء ودافعت عنهم في حياتهم… بالنسبة لي لا جدوى من سرد حسنات كاتب في غيابه. يصبح الأمر مؤلما أن نتنكّر له حتى لحظة انطفائه، ثم نخرج أقلامنا ونخط مديحا طويلا بما فيه وما ليس فيه. نعم غادرنا الغيطاني ولم أكتب عنه، وعاتبني بعض الأصدقاء لماذا لم أكتب عنه كلمة؟ وأنا عاتبتهم لماذا لم يعودوا إلى أرشيفي في دبي TV أو على يوتوب ويشاهدوا كيف احتفت بضيفها؟ نعم أخرجت صورته من أرشيفي ووضعتها على انستغرام وفيسبوك وتويتر.. وقبل ذلك أعتبر نفسي قارئة جيدة للغيطاني، قرأته من الغلاف إلى الغلاف، وأكلنا عيش وملح معا وتحدثنا في أمور خاصة وأخرى عامة، عاملني كصديقة قريبة، وعاملته كفرد من عائلتي. ترى هل من الأخلاق اليوم أن أتبجّح بما أعرف عنه وأبعثر ما لدي في الجرائد؟ لست من هذا النوع ولا أريد أن أكون لامبالية بقيمة الكاتب الذي مثلما منحته اهتمامي منحني الكثير من المحبة والاحترام. بالطبع كتبت عن كتاب في السابق، ثم شعرت بأن المقال لا يعطي الكاتب حقه. لعلي سأجمع ما لدي من ذكريات جميلة مع شعراء وكتاب وفنانين في كتاب، احتراما لمقاماتهم جميعا. واحتراما للذاكرة التي تحتفظ بالكثير ولكنّها تخضع لسلطة اللغة ومساحة النشر المقتضبة فيبقى الكثير مخبأ في تلافيفها حتى تفاجئنا الأيام بنقطة النهاية. ما أريد قوله بصوت عالٍ هو أنه من العيب أن نتنكّر للكاتب مرتين، مرة حين نعامله كميت، فننساه في حياته حتى الإلغاء، ومرة حين نطعن من احتفوا به. هناك من يصرُّ على قتل الكاتب طيلة حياته، بكل وسائل القتل التي تخطر على بال الشخص، من إعلان حرب شعواء على أدبه، إلى حرب على لقمة عيشه، إلى تجويعه، إلى تشويه سمعته، إلى مطاردته من بلد إلى بلد، مهجّرًا وشريدا بين المنافي، ثم فجأة عند لحظة موته يرتدي عباءة القديس ويلقي خطب المحبة علنا فيه. هل ينفع أن نرمي قطعة خبز في قبر ميت مات من الجوع؟ ما أسوأنا إن فعلنا ذلك.. ما أبشعنا من الداخل والخارج، وما أبشع ملامحنا وهي تستعير الطيبة من شيء لا وجود له. كان بودي أن نتحدث في هذا الموضوع بشفافية أكثر، ونضع قائمة من نفيناهم من صفحاتنا، لأن الشيخوخة أحالتهم إلى التقاعد. مع أن الكاتب يزداد خبرة وتجربة ويزداد حرفه جمالا ووزنا كلما زاد عمره. وحده الكاتب لا يشيخ حين يتحوّل إلى نص، لأنه يستمر في الكتابة بالروح الشابة الطليقة نفسها، لأنه أيضا لا يشعر بالشيخوخة تكتسحه إلا حين يقف أمام المرآة أو حين تخونه أصابعه وعيناه. ينتهي الكاتب حين يلفظ أنفاسه الأخيرة. وبالإمكان استثماره حتى آخر رمق. لكننا لا نفعل ذلك لسبب أجهله. نهتم دوما بالأقلام الشابة، بالنتاجات الجديدة، ونرمي الأجيال التي تبلغ الستين إلاّ من كان في موقع مسؤولية وبإمكانه تعليق حبل المشنقة لنا متى يشاء. نتعامل مع الكاتب من باب أنه موظف، ونحسن معاملته حسب أهمية وظيفته. ويحضر المال الخليجي هنا ليحدد أهمية الشخص وعدمه، في الغالب يحدث هذا اليوم، وهذه ليست غلطة الخليجي، بل غلطة ابن البلد الذي يذبح ابن بلده من دون مراعاة لحجمه أدبيا وثقافيا. تحدثت كثيرا في هذا الموضوع وأعاود الحديث فيه، لأن من ينتقدون ما نكتبه هم أول من أهمل البرامج الثقافية والأدبية، وينتجون برامج الثرثرة التي يتخللها الصخب والنكت الفاحشة، فمن قال إن شاشات لبنان اليوم تطل علينا ببرامج تثير الحزن من شدة سخافتها، وإننا «بدو» الخليج نعيد للثقافة بريقها؟ نعم عشقت بيروت حتى ذبت من عشقها، عشقت القاهرة حتى صارت لي جذور في تربتها وشرايين متقاطعة مع شرايينها، وحملتهما معي إلى حيث أسافر، وحيث أقيم، وحيث أعمل، وحيث أرتاح من تعب العمل. وما زلت، أبحث في هذه الخريطة الفسيحة المزينة بموزاييك الثقافة العربية كمن يبحث عن كنز. وفي كل مرة أقع فيها على تحفة أحملها بأجنحة قلبي وأقدمها للجمهور العربي. أنا لست جاحدة لمن أسس لثقافتي وقلمي … كنت ولا أزال وفية لكل من كتب حرفا جميلا ونقش الدهشة على محطات عمري المختلفة، ولهذا أبتسم اليوم حين أقرأ عتابا لأنني لم أكتب عن جمال الغيطاني، أو لأنني كتبت عن سعيد عقل بحب لم يتوقعه الآخرون، أو لأنني كتبت عن غادة السّمان لأنني أراها مدرسة في حد ذاتها. الكتابة في الصحافة لا تعني أن أجلس في الزاوية التي تحبون وتملون عليّ ما يجب عليّ كتابته، أعتقد أنني لم أعد تلميذة إعدادي ودروس الإملاء تجاوزتها منذ مئة عام. جميعنا ناضجون، ولقد أحببت دوما القارئ الذي أدخل معه في علاقة انسجام جميلة، بعيدة عن الصدامية التي تنهك الاثنين ( الكاتب والقارئ). أحببت دوما القارئ الذي يمنحني فكرة إضافية ويفتح بصيرتي على أشياء سقطت سهوا مني، أو يمنحني ما لم تمنحني إياه الظروف من فرص للتعرف على معارف كثيرة… نحن لا نولد علماء! والشاعر قال: «تعلّم فليس المرء يولد عالما..». هذه الفسحة يا أصدقائي ليست للتناحر، وقد تفاديت أن أقف طويلا عند رسائل البعض، التي تمتلئ بأفكار سلبية. كنت ولا أزال إيجابية التفكير، لهذا أيها السّادة والسيدات، أيها الأفاضل، ثقوا بأنني محبة للجميع، ولقارئي تحديدا، وثقوا بأن الأدب والشعر والثقافة والفن أشياء تجري في شراييني، تماما كما تحيا وتتكاثر في مكتبتي. لم أنس جمال الغيطاني يا أصدقائي… وأظنني مثابرة على تسليط الضوء على الأسماء المعروفة وغير المعروفة، فكثيرا ما اقتنيت كتبا لأسماء مغمورة ووضعتها تحت الضوء. ولأننا في زمن الإنترنت والتواصل السّهل، ما عليكم سوى أن تعودوا لأرشيف البرامج الجميلة، هناك إعلاميون حفروا في الصخر لجعل الثقافة في الواجهة ولكننا تناسيناهم… و كأنّ الإعلامي مجبر ليسجِّل حضوره كل يوم، وإلا فبالوعة النسيان تسحبه لقاع من العتمة. كم أتمنى أن يكرّم حكمت وهبة في عقر بيته… رياض شرارة في عقر بيته… سونيا بيروتي وعمالقة الإعلام اللبناني الذين يُسحب من تحتهم السجاد يوما بعد يوم، لا نريد لعالمنا الجميل أن ينهار كله تحت وقع أقدام الرّاقصين في نايت كلوب… مللنا البرامج التي تشبه الأعراس الشعبية، أو تلك التي تتخذ من النكتة البذيئة طريقة لكسب المتفرج. ومللنا التنكيل بمن هم في المسار الصحيح، لست أنا من يُعاتب، ولا الخليج الذي أنجبني، أعتقد أن لا عتاب بين الأخوة فنحن جميعا خريجو المدرسة اللبنانية بالدرجة الأولى، وخريجو مدرجات أم الدنيا، لكن إن كان ولا بد من عتاب فليُعاتب أهل البيت على هذه الفوضى وهذا الهرج والمرج، فنحن على العهد الجميل باقون.