بدون أدنى شك، يشكل الروائي البرتغالي أنطونيو لوبو أنطونيش، واحدا من أهم الأصوات الروائية في زمننا الحاضر، إذ عرف كيف يبني عالما كبيرا من الكتابة، وذلك منذ روايته الأولى «دبر يهوذا»، التي كانت المدماك الأول في هذا العمل المدهش، الذي يتأسس حول القساوة والتطلّب غير المحدود، ليصور من خلاله مجتمعه البرتغالي الواقع في الانتفاع العائلي. بالتأكيد نجد أن مهنته، كطبيب ومحلل نفسي، قد لعبت دورا في هذا الأمر، إذ غالبا ما نجد في كتاباته، هذا الهوس في التحليل النفسي «غير الرحيم»، ليصنع منه روايات معقدة التركيب، تشي بقدرته الأسلوبية الكبيرة. روايات تفرض حضورها ووزنها، عبر لغة «عنيفة» أيضا، لغة نابضة ولاذعة، يحاول أن يكسرها عبر بحثه عن «قواعد نحوية مختلفة» (مثلما صرح ذات مرة في أحد أحاديثه الصحافية) يمكن لها أن تحفر في أعمق أعماق المسكوت عنه، في بلد لا يزال واقعا تحت أرق وعذاب ماضيه الاستعماري والدكتاتوري. غالبية روايات لوبو أنطونيش تقع في متاهات الماضي، أقصد أنه يحاول أن يعيد قراءة تلك الفترات المظلمة في حياة البرتغال، من استعمار البرازيل، إلى تيمور، ومن بلدان أفريقيا إلى عهد سالازار، وكأن الرواية عنده وسيلة لقراءة المجتمع، بجزأيه الفردي والجماعي. ومن هذا الشريان عينه، تأتي روايته الجديدة - (الصادرة بترجمة فرنسية عن منشورات كريستيان بورغوا، في العاصمة الفرنسية) – «لم أرك البارحة في بابل»، لتشكل، عبر عملية تركيبها محاولة أخرى كي تغور وتبحث في «الوعي الأليم» عند عدد من الأشخاص، الذين يتحدثون ويتكلمون، في فترة محددة، هي ليلة من ليالي السهد، وتحديدا ما بين منتصف الليل والخامسة صباحا، لتشكل أحاديثهم والقصص التي يروونها لبعضهم بعضا، التعبير عن الهوس الذي يعيشونه، التعبير عن شعورهم بالكآبة من فكرة الموت التي تعذبهم. أحاديث تتقابل وتتجمع، لتخرج على طريقة سيمفونية «مأتمية» كبيرة. لنقل إننا في رحلة في «قلب الظلمات» (فيما لو استعرنا عنوان إحدى روايات جوف كونراد) وفي قلب القلب هذا نجد شخصا، لا نعرف اسمه، بل يسميه الرواي «إنسان»، كان شرطيا سابقا خلال عهد الدكتاتور سالازار، اشتهر بقدرته على تعذيب خصومه بطريقة مرعبة. غالبا ما كان «إنسان» يتساءل: «أهو مجرد قذارة عادية، أم مريض وجد أن وسيلته الوحيدة ليشفي غليله كانت في هذه المهمات السادية التي كان يقوم بها، أم أنه لم يكن سوى ضحية حياته الخاصة، أي ضحية طفولته التي انهارت منذ زمن بعيد؟ ليس كتابا لم يكن «إنسان» سوى هذه الشخصية التي تتشكل من كتلة كبيرة من العقد الدافعة للدوار. كان أشبه «بثقب أسود» تتمحور حولها باقي شخصيات الرواية، وبخاصة الشخصيات النسائية، لتشكل كورسا أليما من الهويات المتناحرة والذل والزيجات الفاشلة. شخصيات تمتد مثل هذا الشريط المعدني، الذي يرغب في استخدامه أصدقاء «إنسان»، الذين كانوا يعدون مؤامرة لقتله، لأنه «صفى»، في ما مضى، زوج آنا إميليا التي تشكل بدورها روحا من هذه الأرواح الهائمة في هذه اللوحة الواقعة في 6 أجزاء، حيث لا نكتشف مفتاحها الذي يقودنا إلى الداخل، إلا في نهاية الكتاب. بهذا المعنى، لا يُسهل أنطونيو لوبو أنطونيش مهمة القراء، حين يبني هذه الحبكة المتداخلة. حبكة تتطلب من القارئ أن يذهب إلى أعمق أعماق هذه الرواية الأشبه بالتنويم المغناطيسي، لكي نقع على تفاصيل هذه المعرفة بالبشر. معرفة لم يتوقف الكاتب عن البحث عنها، خلال مشواريه: التحليل النفسي وكتابة الفن الروائي. فن نستطيع أن نصفه في هذا الكتاب، فيما لو استعرنا منه هذه الجملة، بالتالي: «أحاول أن أبقيكم معي، لأطول فترة ممكنة، على الرغم من أنني أعرف بأني سأفقدكم تدريجيا كلما تقدمت الصفحات بنا». بمعنى آخر، تُشكّل هذه الأمنيّة، أمنية كلّ كاتب، مثلما تشكل قلق كلّ راو حين يرى أن اللحظة التي سيغادره فيها مستمعه قد حانت. أمنية تصبح مدهشة بقلم الروائي البرتغالي، أو بالأحرى، عبر الشخصية التي تتفوه بها في هذا الليل. لأن «هذا الكتاب الذي ليس كتابا، يقرأ في الليل». علينا أن نستمع إلى هذه الكتابة فيما لو قرأناه. عن السفير