«أول فرع بجنوب شرق آسيا».. بدء الدراسة رسميًا بجامعة الإسكندرية في ماليزيا (صور)    البورصة المصرية تغلق الجلسة عند مستوى 36100 نقطة    وزير التعليم يوقع مذكرة تفاهم مع شركة يابانية لتعزيز تعليم الموسيقى بالمدارس    اتصال هاتفى بين وزير الخارجية ونظيره اليوناني    صلاح محسن يقود تشكيل المصري ضد بيراميدز في الدوري المصري    حملة مشتركة للكشف تعاطي المواد المخدرة والمخالفات المرورية بشارع الجيش بالمنصورة    بالصور والفيديو سابقة تحدث لأول مرة لفيلم مصري.. برج المملكة يحمل أفيش فيلم درويش لعمرو يوسف    الثلاثاء المقبل.. طرح أول أغنية من ألبوم ويجز الجديد    بعد طرح بوستر فيلم "جوازة في جنازة "تعرف على مواعيد عرضه بمصر والعالم العربي    فابريزيو رومانو يكشف موقف مانشستر سيتي من رحيل نجم الفريق    بعد اعتذار الجونة.. إعادة قرعة الدوري المصري للكرة النسائية (مستند)    جهاز الاتصالات: إيقاف الهواتف التي تجري المكالمات التسويقية الإزعاجية بداية من الأسبوع المقبل    موجة حارة.. حالة الطقس غدًا الأربعاء 20 أغسطس في المنيا ومحافظات الصعيد    بعد سرقة دراجته النارية.. إصابة شاب بطلق ناري على يد مجهولين بقنا    كان بيعدي السكة.. وفاة شخص دهسا تحت عجلات القطار في أسيوط    4374 فُرصة عمل جديدة في 12 محافظة بحد أدنى 7 آلاف جنيه    عائلات المحتجزين الإسرائيليين: نتنياهو يكذب ويضع شروطًا غير قابلة للتنفيذ لإفشال الصفقة    رئيس هيئة الرقابة على الصادرات: تقليص زمن الإفراج الجمركي إلى يومين بنهاية 2025    عمرو يوسف يحتفل بالعرض الخاص لفيلم "درويش" في السعودية    حقيقة إحالة بدرية طلبة للمحاكمة الاقتصادية.. محاميها يكشف التفاصيل    تكليفات بتوفير أصناف العلاج المختلفة بصيدلية مركز طب أسرة صحة أول بأسوان    لأول مرة «بإهناسيا التخصصى».. استئصال ورم كبير متضخم بالغدة الدرقية لمسنة تعاني صعوبة التنفس    نفق وأعمال حفر إسرائيلية جديدة داخل ساحة البراق غرب المسجد الأقصى    وزير الخارجية: الكرة الآن أصبحت في ملعب إسرائيل لوقف إطلاق النار    محمد مطيع رئيسًا للاتحاد الإفريقي للسومو ونائبًا للدولي    كيف تعرف أن الله يحبك؟.. الشيخ خالد الجندى يجيب    الشيخ خالد الجندى: افعلوا هذه الأمور ابتغاء مرضاة الله    ميلان يخسر خدمات رافاييل لياو في الجولة الأولى للدوري الإيطالي    محافظ الأقصر يلتقي وفد أهالي المدامود ويعلن زيارة ميدانية عاجلة للقرية    «التعليم العالي»: إعلان القائمة المبدئية للمرشحين لمنصب رؤساء 5 جامعات أهلية    مصادر طبية: 40 شهيدًا بنيران الاحتلال في مناطق عدة منذ فجر اليوم    صور.. النقل تحذر من هذه السلوكيات في المترو والقطار الخفيف LRT    "رقص ولحظات رومانسية"..منى زكي وأحمد حلمي في حفل عمرو دياب في الساحل الشمالي    أول تعليق من أشرف زكي بعد تعرض ألفت عمر للسرقة في باريس    تدريب المعلمين على تطبيقات الآلة الحاسبة.. بروتوكول جديد بين "التعليم" و"كاسيو"    بالصور- وزير العدل يفتتح مبنى محكمة الأسرة بكفر الدوار    من هم أبعد الناس عن ربنا؟.. أستاذ بالأزهر يجيب    بي بي سي ترصد طوابير شاحنات المساعدات عند معبر رفح بانتظار دخول غزة    "فاليو" تنجح في إتمام الإصدار السابع عشر لسندات توريق بقيمة 460.7 مليون جنيه    بالصور- افتتاح مقر التأمين الصحي بواحة بلاط في الوادي الجديد    «الوعي»: التحرك المصري القطري يُعيد توجيه مسار الأحداث في غزة ويعرقل أهداف الاحتلال    مدير أوقاف الإسكندرية يترأس لجان اختبارات القبول بمركز إعداد المحفظين    تأجيل محاكمة عاطل بتهمة سرقة طالب بالإكراه ل23 سبتمبر    مواصلة الجهود الأمنية لتحقيق الأمن ومواجهة كافة أشكال الخروج على القانون    استعدادًا للعام الجديد.. 7 توجيهات عاجلة لقيادات التربية والتعليم بالدقهلية    تقديم الخدمات الطبية المجانية ل263 مريضاً بمحافظة كفر الشيخ    فنان شهير يفجر مفاجأة عن السبب الرئيسي وراء وفاة تيمور تيمور    "الموعد والقناة الناقلة".. النصر يصطدم بالاتحاد في نصف نهائي السوبر السعودي    صعود جماعي لمؤشرات البورصة بمستهل جلسة اليوم    إلغاء إجازة اليوم الوطني السعودي ال95 للقطاعين العام والخاص حقيقة أم شائعة؟    وزير الدولة للاقتصاد والتجارة والصناعة الياباني: الاقتصاد المصري يحتل أهمية خاصة للاستثمارات    «الري»: منظومة إلكترونية لتراخيص الشواطئ لتسهيل الخدمات للمستثمرين والمواطنين    الداخلية تؤسس مركز نموذجي للأحوال المدنية فى «ميفيدا» بالقاهرة الجديدة    «100 يوم صحة» تقدم 52.9 مليون خدمة طبية مجانية خلال 34 يومًا    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الثلاثاء 19-8-2025 في محافظة قنا    عماد النحاس يكشف موقف الشناوي من مشاركة شوبير أساسيا    رابط نتيجة تقليل الاغتراب 2025 بعد انتهاء تسجيل رغبات طلاب الثانوية العامة 2025 للمرحلتين الأولي والثانية    «ثغرة» بيراميدز تغازل المصري البورسعيدي.. كيف يستغلها الكوكي؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد الماغوط .. تراتيل المواجع على أرصفة المقاهي
نشر في نقطة ضوء يوم 09 - 08 - 2020

محمد الماغوط (سلمية، حماه 1934 - دمشق 2006) ظاهرة شعرية حديثة بامتياز في الأدب العربي الحديث وهو ليس كغيره من الشعراء الذين تخرجوا من أرقى المعاهد والكليات ولا من الذين أوصى بهم الأمراء والوجهاء إنه شاعر شحذته المواقف وتعهده الجوع وأوصى به الفقر فكان رجل مواقف وشاعر إباء خاض تجربة قصيدة النثر في وقت اشمخرت فيه صروح شعر التفعيلة برغم اعتراضات النقاد الكبار عليه ونخص بالذكر الراحل الكبير عباس العقاد الذي كان يسمه بالشعر السائب، ويحيل قصائد الشعراء الشباب في ذلك الوقت من أمثال أحمد عبدالمعطي حجازي ونزار قباني وصلاح عبدالصبور على لجنة النثر للاختصاص إمعانا في السخرية وفي عدم الاعتراف بهذا اللون من الشعر.
أرض جديدة إذا قطعها الماغوط، أرض بكر لم يقتحم مجاهلها رائد من قبل بمعية يوسف الخال وأدونيس في مجلة "شعر" وفي مدينة التجريب والمغامرة بيروت التي دخلها سرا في الخمسينيات، ولكن الماغوط مهر قصائده بنضاله وإبائه ورفضه، وهكذا لم تعد المنابر هي الأماكن التي يتلو فيها قصائده ولا صالونات الكتاب التي يوقع فيها البيع بالإهداء بل المقاهي والأرصفة، هو إذا شاعر المقاهي كما هو شاعر الرصيف، الرصيف الذي صار له ديوان فخم في الشعر الحديث ومن الرصيف استمد لغته الشعرية، فحبك بين ألفاظها بعرق الأجير وكدح الفلاح وأنات المسجون وأحلام الشباب العربي المجهضة، قاموس شعري بسيط بساطة الإنسان المدافع عن عرضه ووطنه، والحالم كغيره من خلق الله بعالم أكثر عدالة ورحمة، المتشبث بأرضه، وبقدر بساطة ذلك القاموس حد المباشرة يمتلك كل صفات الشعر ومعاني الرفض والتمرد والإباء والسخط، وما شئت من ألفاظ الإباء وحقله الدلالي، لون كابي ونغم حزين تطالعك به دواوين الماغوط الكثيرة ك "شرق عدن غرب الله" و"سياف الزهور" وغيرهما، فهو الشاعر الذي عزف مواويل الحزن والتمرد بين جنبات السجون (وقد دخل السجن أكثر من مرة)، وشبع في هذه الدنيا تسكعا على الأرصفة فهو بحق ملك الأرصفة وإمبراطور الصعاليك، ومن عرف سر صعلكته أحبها وشغف بها عشقا؛ إنها صعلكة نبيلة فيها كبرياء وعزة ونبل وطهارة وصدق مع النفس ومع العالم.
لم يتعلم الماغوط تعليما منتظما عاليا يبرر به ذلك الإبداع العظيم الذي خلفه، فقد ترك المدرسة صغيرا بسبب فقر والده، ولكنه بموهبته الشعرية وحسه الجمالي الكبير استمع إلى صوته الداخلي صوت الفطرة الذي فتح بصيرته على الحق والعدل والخير والجمال، فعزف أروع النوتات بين جنبات السجون وعلى أرصفة المقاهي، إنه تروبادور حزين متجول يحمل كنانته ويرمي بسهام من قارص اللفظ فتصيب المقاتل منا، إنه لاجئ في هذه الدنيا يبحث عن الحرية والخبز والنار والنور. هو ديوجين العربي الذي سكن برميلا وحمل شمعته في وضح النهار ورائعة الشمس يجول عبر الطرقات ويجوس خلال الديار سائلا أين الإنسان؟ أين العربي؟
المقهى كان منبر الشاعر والرصيف معلمه، وللمقاهي حكاية لا تنتهي فقد قال الكاتب الإيرلندي جورج مور قبله:
"إنني لم ألتحق بجامعة أكسفورد ولا بجامعة كمبردج ولكنني التحقت بمقهى أثينا الجديدة، فمن أراد أن يعرف شيئا عن حياتي ينبغي أن يعرف شيئا عن أكاديمية الفنون الرفيعة هذه لا تلك الأكاديمية الرسمية الغبية التي يقرأ عنها في الصحف".
وفي المقاهي العربية الحديثة ك "الفيشاوي" في القاهرة و"الرصافي" في بغداد ومقهى "تحت السور" في تونس و"ستار باكس" في بيروت و"الهافانا" في دمشق تاريخ لا ينتهي من الإبداع والحميمية والتمرد كذلك، فقد كانت منابر مفضلة لكثير من المهمشين والرافضين على السواء مثلما كانت مقاهي الغرب ك "فلور" و"لي دو ماجو" و"ليب" منبرا سياسيا وفنيا وثقافيا كما هي فضاء تقتسم فيه الحميمية والدفء والفرجة. لكن الماغوط جعل المقهي ديوانا فخما في الشعر العربي الحديث وفي نصوصه لا تنقطع حقوله الدلالية.
هل كان المقهى والرصيف إيذانا بأزمة الجامعة وفشل النخبة وتحول المثقف إلى لاهث وراء المغنم والشكليات كالألقاب والمناصب ونهاية مجتمع المعرفة وطلبة الموقف والإبداع إلى طلبة الشهادة والخبز والاجترار والأمية الثقافية – وهي غير الأمية الألفبائية؟ وفي تقديرنا إن ذلك يصح كثيرا فقد انتهى دور المثقف الصانع وحل محله المثقف المتفرج، انتهى دور المثقف المتن وتم طرده بقوة الطرد المركزي إلى الهامش وحل محله السياسي البهلوان ورجل الأعمال ولاعب كرة القدم ونجمة الإغراء ومغنية الملاهي والواعظ خمس نجوم مثل قصاص المساجد زمن عبدالملك بن مروان أو أبي جعفر المنصور!
واقع عربي محبط في كل ظواهره بدءا بالسياسة التي عرفت نكبة فلسطين والخذلان العربي وانتهاء بتقسيم السودان والحرب على العراق وبين نكبة ونكبة قمم عربية للخطابة وقمع سياسي ضد الشعوب العربية جعلت أوطانها أشبه بالمحتشدات في غياب الكرامة والحريات بله ولقمة الخبز في حين تملك تلك الأوطان كل مقومات الحياة الكريمة وتكالب غربي على تلك الشعوب وعلى أوطانها تحت مسميات قمع الإرهاب تارة والإصلاحات الاقتصادية تارة أخرى وجحافل من الشباب العربي الهارب إلى الضفة الأخرى أو الساكت على الضيم إيثارا للسلامة الفردية.
واقع ثقافي متسم بالشكلانية المفرطة تارة، والجري وراء المكاسب والمناصب في الحكومات وقصور الثقافة تارة أخرى، انتهت فيه الثقافة إلى سلم يرتقي به الموصوف بالمثقف إلى متزلف ناشد كرسي أو طالب غنيمة أو جائزة أو ميدالية أو تكريم أو ترقية جامعية أو مؤتمرا مدفوع الرسوم والتكاليف في هذه الأرض العربية اليباب وفي كل هذا التخلف وهذا الخراب كل هذه الظروف شحنت قريحة الشاعر بالشعر وملأت نفسه الرافضة الأبية إباء وشموخا على حساب صحته النفسية والبدنية وحريته الشخصية فمن السجن إلى الرصيف والمقهى، ومن هذه الأمكنة التي جعلها ديوانا فخما حديثا في الشعر العربي وصل شعر الماغوط إلى كل زاوية عربية يلقى آيات القبول والرضا من لدن كل القراء، لأنه شاعر الموقف، شاعر الصراحة.
اقرأ وهو يقول عن نفسه وعن الوطن، هذا مطارد من قبل البوليس وذاك من قبل الطامعين من الغزاة:
ولن أنام بعد الآن
في مكان واحد مرتين متتاليتين
وكالطغاة أو الأنبياء المستهدفين
سأضع شبيها لي
في أماكن متعددة في وقت واحد
لا لتضليل الوشاة والمخبرين فلقد صاروا آخر اهتماماتنا
ولكن لتضليل القدر
وإني بهذه المناسبة
أنصح هذا الوطن الخرف العجوز
أن يقوم بنفس الشيء
ولا ينام في خارطته مرتين متواليتين.
وماذا يتبقى من الأوطان بعد أن بيع كل شيء تحت مسمى الخصخصة والشراكة مع الأجانب وفلول الإقطاع والفساد وأمجاد التاريخ الغابر:
كل ما حولنا يتصدع ويتداعى
أين الأنقاض
هل باعوها سلفا؟
ربما كان التمرد العربي ومقاومة الاستعمار والبغي هو الصفحة الناصعة في تاريخنا العربي المملوء بالانكسارات والخيبات والخيانات كذلك ولكن حتى الشهداء لم يسلموا من الضيم ومن الخذلان ومن التحريف ومن انتحال مجهودهم والتلاعب بدمائهم الزكية:
الشهداء يتساقطون على جانبي الطرق
لأن الطغاة يسيرون وسطها
وللحرية حضور الأسد في دواوين الماغوط فهو شاعر الحرية كما هو شاعر الرفض والسخط والكابية والحزن ومن خطب الحسناء لم يغله المهر كما قال شاعرنا القديم. الحرية التي مارسها في الإبداع فتمرد على عمود الشعر ثم على شعر التفعيلة وتمرد على فخامة اللفظ ونصاعة الصور الشعرية واختار جمهورا من الناس هم العامة أولا، فقد عهدنا الشعراء يتوجهون إلى خاصتهم تارة بالمدائح وتارة أخرى بالغزل الذي أوجعوا به رؤوسنا، أما هو فيوميات العربي وألفاظه: السجن، الخبز، التحقيق، البوليس، الحب، الله، الرصيف، القهوة، الكرسي، الخريطة، الخوف، الجوع، العري، الاستغلال........:
كلما أمطرت الحرية في العالم
سارع كل نظام عربي إلى رفع المظلة فوق شعبه خوفا عليه من الزكام.
لقد فك الماغوط شيفرة العلاقة بين الشاعر والحاكم – وقد فعل كثيرا ذلك ابن بلده نزار خير مثال - فلم تعد العلاقة دلالا وغنجا في حضرة الحاكم لقد عهدنا الشاعر القديم يقوم بالتدليك بأشعاره لجلدة الحاكم، ولعل هذا ما جعل نقاد التاريخ العربي من مستشرقين يقولون بتفاهة كثير من الشعر العربي لأنه لا يخرج عن مدائح لم يفعلها ديوان شعر أمة من الأمم فاسمع جريرا يقول لآل مروان:
يا آل مروان إن الله فضلكم فضلا ** عظيما على من دينه البدع
وانتهاء بابن هانئ (متنبي الغرب) الذي بذهم جميعا في السفاهة والتفاهة فقال مخاطبا المعز لدين الله الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار** فاحكم فأنت الواحد القهار
فكأنما أنت النبي محمد ** وكأنما أنصارك الأنصار
علاقة أساسها التدليك والنفاق من قبل الشاعر والتكبر من قبل الحاكم والطغيان وبذل أموال بيت مال المسلمين لهؤلاء المرائين ولهذا تغيب الجماهير في الشعر العربي، يغيب الكادحون والفقراء ويحضر الملوك واللصوص والأغنياء والجواري والراقصات، وهي ظاهرة تصم كثير ا من الأشعار العربية وإن عجبت فاعجب لمن يتشدق بحفظها والإشادة بفخامة ألفاظها وروعة صورها بل ويؤلف فيها الكتب والرسائل الجامعية، وهي بذاءات وهراء ساهم في تخلفنا الحضاري ولعله مرض الشعر وقد حلل الراحل علي الوردي هذا المرض في كتابه البديع "أسطورة الأدب الرفيع" كما تناول أمراض الشعر الكاتب والناقد عبدالله الغذامي في تحليله الرائع للأنساق الثقافية وبعض المنجز الشعري أو النثري العربي يصدق عليهما قول الشاعر القديم:
تلك المكارم لا قعبان من لبن** شيبا بماء فعاد بعد أبوالا
وقد روي أن الخليفة العادل عمر بن عبدالعزيز كان يحب أن يتمثل بهذا البيت فهل كانت ذائقته الشعرية استثناء كما كان حكمه كذلك استثناء بعد الخلفاء الراشدين؟ ولم يسمح للشعراء المتملقين بالدخول عليه.
فالعلاقة بين الماغوط الشاعر والحاكم العربي أيا كان علاقة يحكمها التوتر والتمرد والسخط، ولو على حساب اللقمة والحرية مضحيا بكل الامتيازات التي يجلبها الولاء، ها هو يخاطب ابنتيه شام وسلافة:
معظم المبدعين والثوار العظام
يحملون أطفالهم مسؤولية التنازلات المتوالية
أمام الرغيف
والحذاء وقسط المدرسة
والدروس الخصوصية
وثياب العيد
وحبكما علمني تحمل الجوع والعطش والألم
تحت الشمس والمطر والثلج والمشانق
والصمود أمام المقابر الجماعية ودبابات الطغاة
نكهة السخرية مع اللون الكابي ونيران السخط وألفاظ التمرد هي ما يعطي لشعر الماغوط السياسي سحره وألقه وجاذبيته واندغام القارئ في ثنايا نصوصه إنه يجد نفسه الموؤدة وروحه المغتصبة وحقوقه المهضومة وحريته المغيبة. اقرأ سخريته من الأداء الحكومي العربي:
وشكلت حكومة ظل وطوارئ ورشحت لها
كل أنواع الورود في العالم لوزارة الشباب
والقمر لوزارة الكهرباء
والمطر لوزارة الري
والسنونو لوزارة المواصلات
ونسرا لوزارة الخارجية
وببغاء لوزارة الإعلام
والرياح لوزارة التخطيط
وسكيرا لوزارة التربية والتعليم
وغجريا لوزارة الإسكان
وأبو النواس لوزارة الأديان
وأبو السياف للسياحة
والحجاج لوزارة العدل
وطفلا لوزارة الأعياد والأراجيح والحلوى
وأبو هريرة أمينا عاما للحزب الحاكم ولمجلس الوزراء
الآن يكتمل جنوني كالبدر
ولاتحاد الكتاب والمعلمين والمهندسين والعمال والفلاحين ولأي اتحاد أو نقابة أو مؤسسة فيها سر من الأسرار.
لكن الماغوط الرافض الذي لا يساوم على موقفه اضطرته الأقدار إلى العمل الصحفي في دولة نفطية وهو الشاعر الذي قال مرة: "قبر مفتوح على البحر ولا قصر في الصحراء" إمعانا في نقد ثقافة النفط والسطحية اضطر إلى قبول العرض فلما روجع في ذلك كيف يقبل هذا المنصب قال ساخرا: "الفم يساري والمعدة يمينية" وعاد لانتقاد جائزة نفطية سخية القيمة كان قد نالها. إن هذا لا يشي بسلوك الشاعر ولا مواقفه التي لا يساوم عليها ولكن يكشف فاجعة الملتزم والنزيه والمسئول عن شعره ومواقفه كيف يغدو مسمارا تطرقه مطارق الحاجة والعوز في وطننا العربي.
وتعد فاجعة رحيل زوجته سنية صالح 1935-1985 فاجعة إنسانية وشعرية بامتياز، فالشاعر المحب لزوجته أم بنتيه شام وسلافة والمقدر لعاطفة الحب والوفاء الزوجي سيظل جريحا كالصقر فقد سقط جدار كان يِلوذ به في صحراء الحياة وترك في وجدانه لهيبا وسيظل يندبه لآخر رمق، هل اتفق القدر على الشاعر؟:
آه يا حبيبتي
الآن يكتمل جنوني كالبدر
كل أسلحتي عفا عليها الزمن
كل صحبي تفرقت
وحججي فندت
وطرقي استنفذت
ومقاهي تهدمت
وأحلامي تحطمت
وقصيدته في رثاء زوجته الشاعرة سنية صالح "سياف الزهور" من أجود المراثي في الشعر الحديث لا نحس فيها إلا بلهيب الحب وزفرة الأسى وأشواك الطريق، كما تتشمم بحاستك الشعرية والإنسانية مشاعر الوفاء والاعتراف والولاء للزوجة الحبيبة.
وفي علاقة الشاعر بالمرأة علاقة أساسها الاحترام والمحبة والوفاء والموقف والروحانيات الأكثر جاذبية وإغراء في المرأة والتي تعين بصبرها وإخلاصها وفكرها ومواقفها على السير بصمود في صحراء الحياة على العكس تماما من نزار الذي كرس مرضا ثقافيا في غزله لا يفتن إلا المرضى والمقموعين جنسيا ومن يعانون من داء الغلمة "إنه نسق الفحولة" كما يسميه الناقد السعودي عبدالله الغذامي شاعر دون جوان يتباهى بفتوحاته في أجساد النساء وقد أنتج هذا الركام من القصائد فشكل صالونا نسويا في شعره قراؤه نساء وطقوسه الغنج، والتفاهة، والسطحية والشبق والميوعة وفحيح الشهوة
اقرا إحدى إنجازاته الشعرية:
لم يبق نهد أسود أو أبيض
إلا زرعت بأرضه راياتي
فصلت من جلد النساء عباءة
وبنيت أهراما من الحلمات
يا سلام على إنجازات الشاعر وفتوحه ماذا نفعل نحن - العرب المقموعين والجوعى - بهذه الحلمات وفيم تفيد أمتنا؟ ومع احترامي لقامة نزار الشعرية ومواقفه الشامخة فهذا الكلام ابتذال وسخف وسطحية ورداءة.
وهذا ماجعل الشاعر السعودي غازي القصيبي يقول إن نزار انتهى منذ زمن، وظل يكرر نفسه على طريقة رامبو 1 ورامبو 2 ورامبو3 وليس في هذا غض من قيمة الشاعر، فنزار قامة شعرية وقصيدته في رثاء زوجته بلقيس من عيون شعر المراثي في الأدب الحديث وقصائده السياسية ومواقفه إكليل غار على جبينه ولكن لا داعي للتعمية والمبالغات لأهداف تجارية أو مشبوهة من قبل بعض الجمعيات النسوية أو الحركات الثقافية أو الاجتماعية التي لا تعرف الكوع من البوع.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.