ارتفاع سعر الذهب اليوم.. تعرف على سعر عيار 21    حدث ليلا.. شهداء بغزة وهجوم على قاعدة عراقية وكوريا الشمالية تختبر صواريخ جديدة    وفاة السوري محمد فارس ثاني عربي يصعد إلى الفضاء    كوريا الشمالية تختبر رأسا حربيا كبيرا وصواريخ مضادة للطائرات    ملامح التعديل الوزاري المرتقب .. آمال وتحديات    سعر الدولار اليوم في البنوك والسوق السوداء    الحق اشتري.. انخفاض 110 ألف جنيه في سعر سيارة شهيرة    موعد مباراة مانشستر سيتي وتشيلسي اليوم في نصف نهائي كأس الاتحاد الإنجليزي    عمر مرموش يساهم بهدف في فوز آينتراخت فرانكفورت على أوجسبورج 3-1    تشكيل آرسنال المتوقع أمام وولفرهامبتون    حبس المتهم بقتل سيدة لسرقتها بالبساتين    مشتت وفاصل ..نصائح لتحسين التركيز والانتباه في العمل    بايدن: إنتاج أول 90 كجم من اليورانيوم المخصب في الولايات المتحدة    7 أيام في مايو مدفوعة الأجر.. هل عيد القيامة المجيد 2024 إجازة رسمية للموظفين في مصر؟    فودة وجمعة يهنئان أسقف جنوب سيناء بسلامة الوصول بعد رحلة علاج بالخارج    شعبة المخابز: مقترح بيع الخبز بالكيلو يحل أزمة نقص الوزن    الإفتاء: التجار الذين يحتكرون السلع و يبيعونها بأكثر من سعرها آثمون شرعًا    ارتفاع جديد في عز.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم السبت 20 إبريل 2024 بالمصانع والأسواق    بيان عاجل من الجيش الأمريكي بشأن قصف قاعدة عسكرية في العراق    ميدو يكشف احتياجات الزمالك في الميركاتو الصيفي    تراجع سعر الفراخ البيضاء واستقرار البيض بالأسواق اليوم السبت 20 أبريل 2024    ابسط يا عم هتاكل فسيخ ورنجة براحتك.. موعد شم النسيم لعام 2024    الوزيرة فايزة أبوالنجا    اندلاع مواجهات عنيفة مع قوات الاحتلال في بلدة بيت فوريك شرق نابلس    داعية إسلامي: خدمة الزوج والأولاد ليست واجبة على الزوجة    سفيرة البحرين بالقاهرة: زيارة الملك حمد لمصر تأكيد على التكامل الإستراتيجي ووحدة الصف بين البلدين    3 إعفاءات للأشخاص ذوي الإعاقة في القانون، تعرف عليها    بصور قديمة.. شيريهان تنعي الفنان الراحل صلاح السعدني    ملف رياضة مصراوي.. إغماء لاعب المقاولون.. رسالة شوبير.. وتشكيل الأهلي المتوقع    سيف الدين الجزيري: مباراة دريمز الغاني المقبلة صعبة    بركات قبل لقاء الأهلي: مباراة مازيمبي وبيراميدز شهدت مهازل تحكيمية    كرة يد.. تعليمات فنية مطولة للاعبي الزمالك قبل مواجهه الترجي التونسي    خالد منتصر: ولادة التيار الإسلامي لحظة مؤلمة كلفت البلاد الكثير    "شقهُ نصُين".. تشييع جثة طفل لقي مصرعه على يد جاره بشبرا الخيمة (صور)    أهالى شبرا الخيمة يشيعون جثمان الطفل المعثور على جثته بشقة ..صور    فحص السيارات وتجديد الرخصة.. ماهى خدمات وحدات المرور المميزة فى المولات    ضبط نصف طن لحوم فاسدة قبل استعمالها بأحد المطاعم فى دمياط    9 مصابين في انقلاب سيارة ربع نقل في بني سويف    "محكمة ميتا" تنظر في قضيتين بشأن صور إباحية مزيفة لنساء مشهورات    هل يتم استثناء العاصمة الإدارية من تخفيف الأحمال.. الحكومة توضح    GranCabrio Spyder| سيارة رياضية فاخرة من Maserati    حدث بالفن| وفاة صلاح السعدني وبكاء غادة عبد الرازق وعمرو دياب يشعل زفاف نجل فؤاد    إياد نصار: لا أحب مسلسلات «البان آراب».. وسعيد بنجاح "صلة رحم"    نسرين أسامة أنور عكاشة: كان هناك توافق بين والدى والراحل صلاح السعدني    يسرا: فرحانة إني عملت «شقو».. ودوري مليان شر| فيديو    انطلاق حفل الفرقة الألمانية keinemusik بأهرامات الجيزة    بعد اتهامه بالكفر.. خالد منتصر يكشف حقيقة تصريحاته حول منع شرب ماء زمزم    العميد سمير راغب: اقتحام إسرائيل لرفح أصبح حتميًا    تجليس نيافة الأنبا توماس على دير "العذراء" بالبهنسا.. صور    أعظم الذكر أجرًا.. احرص عليه في هذه الأوقات المحددة    أدعية الرزق: أهميتها وفوائدها وكيفية استخدامها في الحياة اليومية    بجوائز 2 مليون جنيه.. إطلاق مسابقة " الخطيب المفوه " للشباب والنشء    آلام العظام: أسبابها وكيفية الوقاية منها    باحث عن اعترافات متحدث الإخوان باستخدام العنف: «ليست جديدة»    مرض القدم السكري: الأعراض والعلاج والوقاية    متلازمة القولون العصبي: الأسباب والوقاية منه    «هترجع زي الأول».. حسام موافي يكشف عن حل سحري للتخلص من البطن السفلية    نصبت الموازين ونشرت الدواوين.. خطيب المسجد الحرام: عبادة الله حق واجب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جمعة ذات الأسماء الخمسة : ضد الأبوية الذكورية!
نشر في نقطة ضوء يوم 04 - 03 - 2013

لا تَتوانى الكتاباتُ المعبِّرة عن هموم المرأة وقضاياها المُشْكِلة في واقعها، أن تتلاشَى أو حتى تَقِلَّ، بل هي في اطرادٍ مُسْتَمرٍ، وتتدفَق من قُطْرٍ إلى قُطْرٍ، باختلافات التوقيعات رَجلا أو امرأة، في مسعى جَادٍّ لمقاومة كافة أشكال الوصايا الأبوية ومناهضة كافة أشكال التمييز التي رَسَّخَتْها ثقافات تختزلُ المرأة في جسدها، رغم ما تدَّعيه من عَصْرَنة وتحديث، والمثال الواضح ما تُعَانِية المرأة من امتهانٍ ودعوات تعود بها إلى عصور ظَلامية مع ثورات الرَّبيع العَربيّ في مفارقة تدعو للتعَجُّبِ والاستنكار، فالدساتير التي أُنْتجِتْ (أو مسوداتها) بعد الثوَّرات تؤكِّد الرغبة الكامنة من قبل الذكورية بالعودة إلى عصر الحريم، والجواري. وتجور على الإنجازات التي حققتها المرأة من قبل، وأبرزها أن جعلت من ذاتها فاعلاً بعد أن ظلت لعقود طويلة وفي معظم نتاجات الرَّجُلِ الإبداعية مفعولاً فيها.
لم تبعد كثيراً عن هذا السِّياق رواية جمعة ذات الأسماء الخمسة للدكتور ياسين سعيد نعمان، السِّياسيّ اليمني البارز، التي صدرت مُؤخَّراً مع عدد يناير 2013 من مجلة الرَّافد، الصَّادرة عن دائرة الثقافة والإبداع في حكومة الشَّارقة، فبطلة الرِّواية تُقَاومُ السُّلطة الذكورية التي سلبت هويتها تارة، وحقوقها المادية تارة ثانية، الأعجب في هذه الرِّواية أنها صوت نسوي بامتياز، فالرِّوَاية تندرجُ بامتياز تحت روايات الجُندر Gender مع أن كاتبها سياسي بارز هو الدكتور ياسين سعيد نعمان، وهو ما يضعنا في مساءلة تلك الكتابات التي كانت تبحث عن وضعية المرأة المهينة في كتابات الرجل، وتتأخذ منها دليلاً على بطريركية الرَّجُل مثلما فعلت إيلين شوالتر في كتابها نحو بلاغة نسويّة (1979) الّذي تصف فيه طرق تصوير المرأة في النّصوص التي يكتبها الرّجل.
-1-
الرِّوَاية يتناوبها صوتان، صوت جُمعة وصوت الرَّاوي، بعد أن التقيا صُدْفة في أحد شَوارع اليمن ( شارع علي عبد المغني في صنعاء ) بعدما مَرَّ الزمن وخطَّ بصماته عليها فقد تكسَّرت عضلات وجهها إلى أخاديد، وإنْ احتفظَتْ بكثيرٍ من جمالها الآسر القديم، حيث عيناها المشعتان بِحَوَرٍ أثقلته الأحزان، وَأطفأت جَانباً مِنْ بريقه جَذوة الدموع(16). يلتقيها الرَّاوي ويستعيد ما كَانَ يَحْمِلُ لها من حُبٍّ، جعله وهو فتى يُغَيِّرُ طريقَ مدرسته إلى بيتها، أو يتجرأ - أحياناً- ويطلب ماءً بارداً من أمها الطيبة، وما ان اختفت من الحيِّ، ثم سافر هو في بعثة، حَمَلَ صورتها في قلبه ونقش اسمها في كل كتبه، يلتقيها ثانية وقد تغيَّر كلَّ شَيءٍ بما في ذلك السُّلوكيات، كما عَكس المشهد الاستهلالي، حيث الشَّباب الذين يقودون السَّيارة الفارهة التي أوقفوها بجوارها وأمروها بلغة آمرة بالصُّعود إلى السَّيارة، فالمشهد يضعنا بصيغته الآمرة، وما تحمله من دلالات القَهْر واغتصاب الحرّية والإرادة، يضعنا في دائرة الذكورية، وما تمارسه من استلاب للإرادة، وإن كانت هنا بصورة تعكس هيمنة رأس المال.
ومن نقطة اللِّقَاء، اللَّحظة الزَّمانية المختارة بعناية وسط النَّهار، لتكونَ كاشفاً عن مَكنون الحكاية وجوهرها يبدأ الرَّاوي ( ثم هي في مرحلة لاحقة )، بتجاوز الزمان والمكان، إلى زمان ومكان آسرين بالنِّسبة لهما، حيث الذَّاكرة تستعيد شريط الذَّاكرة، لنتعرفَ أكثر على جُمعة القادمة من الماضي، تمتلك من الإرادة والقوة ما جعلها تَعْبُر الزمن في رحلة العمر المتشظي، محتفظةً بجمَالها، ومتوِّسدَةً بالأمل متجاوزة به ما حَاقَ بها من غُبنٍ وظُلِمٍ بفعل سُلطة أبوية مارست وصايتها. ومع تبدُّل الأزمانِ وتغيير الأماكن، يلتقيان مرَّة ثانية، في هذه الدُّنيا التي تثبت أنها صغيرة لكنها ليست وفيةً، ويبدأ الرَّاوي يستعيدها من قَاع الذَّاكرة، بما تمثِّله الذَّاكرة لها من مخزن الأَسْرار والأحداث، ومخزن الأحلام ما تحقَّق منها وما لم يتحقق، مخزن الأفراح والأوجاع، مخزن الألم واللذة(ص 57).
وفي غمرة غضبها وحنقها من فِعْلِ الشَّباب يأتي إليها الصَّوت الذي يعبر بها وبنا حاجز الزمن والمكان، طاوياً خلفه أكثر من ثلاثة عقود، تحرَّر فيها اليمن من سطوة الاستعمار البريطاني، ورَأَبَت الوحِدَةُ الانقسامَ بين شقيّه وإن كان لم يتحرَّر إنسانه من سطوة الخُرَافة أو التقاليد. يأتي إليها الصَّوت ليعيدَ إليها الطمأنينة بعد حالة التغريب التي عاشتها وهي ترى أشياءً لم تألفها صائحاً: كيف أنتِ يا جمُعة؟.
لم تكن هذه الصيغة، سؤالاً وفقط، بل بمثابة سؤال استعادة للهُويّة المُسْتَلِبَة بفعل ذكوري مَحْضّ، واعتداءٍ سَافرٍ عليها من قبل أزواج مارسوا الاغتصاب المعنوي، (بمحوهم للاسم، في تكرار، مُخِلٍّ وفجٍّ)، وإخوة مارسوا الاغتصاب المادي عليها. فكان السُّؤَال بمثابة الحافز لاستدعاء الذّاكرة وحضورها من قاعٍ سَحِيقٍ، وهو ما يعني بشكل آخر حضور المأساة، التي تبدأ في التدَّاعي ما أن تُمْسِكَ جُمعة بخيط السَّرد مِنْ الرَّاوي، الذي يتوقفُ عن سَرْدِ علاقته بها وحكاية عائلتها وعن قدومهم وتجارة أبيها ونسبه، الذي رَاحَ الناس في الحيِّ القديم ينسجون عنه الحكايات والأساطير، كموروث لم تتخلَ عنه مثل هذه المجتمعات بما تعكسه من بدائية، وهي الحكاية التي تُصبح قابلة للتكرَّار (بما فيها من مأساة غياب الهوية واستلابها بفعل إرادي)، فيما بعد فما أن يرحلَ زوجها الشَّيخ السِّيد بها إلى الوادي، يَطْمِسُ كُلَّ التاريخ القديم بما حَمَلَهُ من مَاضٍ تُغَلِّفُه المأساة ويسعى لأنْ يبدأَ بدايةً جديدة مع أصيلة (الاسم الخامس لها) في هذا المكان النائي في حُضن الجبل، يُكَرِّر نفس ما فعله الأب الحاج المخاوي قبل ثلاثين سنة بطمسه لماضيه وبدايته، فتلعب الفتاة دور الأم ويلعب الشّيخ السَّيد دور الأب، لكن مع تغيُّر الزمن حيث حكومة الاستعمار من قبل لم تهتم أجهزتها بالأصل ومن أين بدأوا، أما في ظِلِّ الصراع بين الحكومات الوطنية كان الأمن قد شَغَلَ حَيزاً مُهِّماً، وهذا ما دَفَعَ الحاج المهتدي (وقد استقرا على هذا الاسم)، أنْ يظلَّ تحت عيون المخبرين، على الرغم مما كان ينفقه عليهم وعلى العسس وغيرهم من المتطفلين، بل إن الحكايات والأساطير التي شغلت الجميع يوم أنْ هبطَ الحاج مخاوي الحيّ، تكرَّرت بدون اختلاف مع حالة الابنة، فنظراً لفارق السِّن الظاهر بين الحاج المهتدي، وأصيلة، نُسِجَتْ حكايات، تعكسُ أثر البناء التحتي، وثقافته التي لم تختلف عن ذي قبل رغم خروج المستعمر، وهو ما يُمثِّل إدانة للحكومات الوطنية التي تعاقبت وفشلت في أن تستبدلَ وفق برامجها ثقافة تُعَبِّرُ عن أيديولوجيتها وتؤكِّد نجاحها، في تحقيق الرَّخَاء الذي تَجْهَر به آلتها الإعلامية، بالثَّقافة التي كرَّسها المستعمر قبل أنْ يرحلَ.
-2-
يتوقف سرد الرَّاوي عند سفره إلى بعثة خارجية، فتتناوب جُمعة خيط السَّرد لتصلَ الماضي المنقطع بغيابه، مرتحلةً عبر الذَّاكرة إلى زَمنٍ قَاحِلٍ لم يستطعْ أَنْ يَقْتَلِعَ خُصوبتها، وإنْ اِجْتَثَّ ذاتها، في مسعى لجمع شتات الحكاية، التي تعكس تراكمات من الاستبداد، وفي هذا السِّياق كانت المرأة أنموذجاً للمرأة العربية (كعادتها على مَرِّ العصور والمحن) القادرة على أن تتخطى كافة التُّخوم التي تعوق مسيرتها، وتُجْهِض أحلامها، لا فَرْقَ بين سلطة أبوية ذكورية، أو سلطة ثقافية لم تتحرَّر بَعْد من المكوِّن الاجتماعي التاريخي المثقل بإرث العادات والتقاليد، أو حتى سطوة سلطة مستبدة، لتنهض من جديد وتقاوم كافة الأحابيل التي أرادت أن تُكَبِلَها وَتُحِدُّ من طموحها عبر وثيقة شرعية تنالَ أوَّل ما تنال من حُرِّيتها، فيكون الطَّلاق هو المُخَلِّص لها من البطريركية ضَارباً بكافة الأمثولات الشَّعبية التي صَاغها وعيٌّ مُتَحَيِّز ضِدَّ المرأة يعكس الأيديولوجية الذكورية، التي تستدعي كَافَةَ أَشْكَالِ الوصاية، عبر شَريطٍ لُغَوي مُكَثَّف مثل عبارة ظِل راجل ولا ظل حيطة التي أخذت تُكرِّسُ لعقودٍ من الامتهان والذُّل، اِنْقَادت المرأة تحت سطوتها إلى هذا الظِّل ، فاقدة القدرة على الانعتاق من حبله، فكانت السُّخرية منها بمثابة هَدْمٍ وتفكيكٍ لتلك السَّطوة، بتعارض الدَّلالة المجازية مع السِّياق الذي أُنْتِجَتْ من أجله فيتحوَّل الظّل بمعناه المجازي إلى كابوس يؤرق حياتها في حين أن ظل الحيطة بمعناه الحقيقي يُصِبحُ أَرْحَمَ وأَكْثَر نَفْعاً في مجتمع ٍكَفَّ عن إنتاج الرَّاجل صَاحِب الظل (59 60(
تستعيد السَّاردة جُمعة - عبر منولوجات طويلة - أوَّل ما تستعيدُ حالة الاستلاب المادي والمعنوي التي مُورست من قبل الذكورية، التي تبدأُ بالأَخ ولا تنتهي عند الزوج، فبدأ الأزواج مَرحلة سَحْقِ الذَّات واستلابها، فالأوَّل قال إنَّ اسم جُمعة لا يُنَاسِبُ مركزه، فأسماها جوهرة، وما إن اكتشف أن إخوتها سلبوها ميراثها، طلَّقها، حيث قام الأخوة أيضاً بحكم الوصاية الأبوية عليها بالجور على حقها هي وأمها في ميراث الأب الذي كان تاجراً وذاعت شهرته وزادت تجارته. أما الزَّوج الثاني فأسماها فضيلة، واستدعى ميراث القبيلة والمجتمعات البدوية في حماية العَار الذي يجب أن يُخفى عن العيون، بحصارها داخل البيت، ولمَّا نَفَذَ صَبْرُهَا تركتِ البيت وعادتْ إلى أُمها، وعَادَ هو الآخر يحملُ قائمةَ خسائره، أما الثالث فكان على مستوى الظَّاهر، مناقضاً لما قبله، فقد اِخْتار اسماً لها يقاوم الثَّقافة المناهضة للمرأة سمَّاها ولاء، فهو رجلٌ من أنصارِ تلك الدعوات التي تقف نصيراً للمرأة، لكن ما إن خرجا من عند القاضي حتى أعلن موقفه المناقض لما سبق، أوَّل شيء فعله أن ناداها يا وَلِيَّة، مُسْتَحضراً ركاماً من تراث عصر الحريم، والحرملك، قطعت المرأة شوطاً كبيراً حتى تجاوزت اثارهما.
-3-
اِسْتعادَة الهوية المفقود كَشَفت على الجانب المقابل المحن والأزمات التي مرَّت بها شخصية جُمعة،بوصفها شخصية إشكالية وقد أَكدَّت الأخيرة على أنَّ الذكورية لم تكن وَحْدها بفعلها المباشر، التي قهرتها، بل اشتركت معها ثقافة (من إنتاج الذكورية) تتوَّسَد بالثقافة التحتية، وتلوذ بكل ما هو أرضي وغيبي لمواجهة المصير الغامض، وهو ما دَفَعَ الأم لأنْ تقودَ ابنتها في درب من المهانة التي تنتهي بمقايضة جسدية في مقابل المال (كما سيتضح في لحظة المكاشفة فيما بعد) إلى الشَّيخ السَّيد لِيَفكَّ لها هذا العمل (تكرار الطَّلاق)، فالأم تختزنُ هي الأخرى موروثاً عَدائياً وَقْمعياً للمرأة، بترهيبها بعادات وأقوال بائدة ترفض قبول المرأة مُطَلَّقَة في البيت، وما بين رفضجُمْعَة للامتثال لتلك الأَعْرَاف البالية التي هي الأُخْرى متحيِّزة ضدَّ المرأة، وتهديد الأم لها بالرَّحِيل من المدينة، ترضخ وتذهب للشِّيخ السَّيد الذي يحتمي هو الآخر خَلْفَ قناع ٍمن الأَسْحَار والطَّلاسم منحاه هيبةً وسطَ النَّاس، فرَاحَ يترددُ عليه كُلّ مَنْ يحتاج إلى الثَّقافة التحتية للاحتماء من المجهول أو طرد مكروه عنه، ونموذج الشِّيخ كَشَفَ عن خَلَلٍ في بنية المجتمع بتسابق الجميع، عُلْيَّة القَوم ِوأراذلهم لقضاء مصالحهم عند الشيخ، وهو ما يؤكِّد أثر المستعمر في تغيير الهوية الثقافية للمجتمعات العربية قبل أن يرحلَ، فالواقعُ يشيرُ إلى أن جيوشه رحلتْ، لكنه تركَ بِذرة التلوُّث، تنمو، وتؤتي ثمارها، وفشلت الحكومات الوطنية في التغيير، وهو ما سَهَّل أن تروج الشائعات في مثل هذه المجتمعات، عن الشَّيخ، وعن أصله، وماله وفيما بعد عنها هي نفسها. والأخيرة رفضتها زينب، وهي القادمة من ثقافة لا تنتمي للمكان، قادمة مع زوجها من السُّعودية وأب كان يعيش في شيفيلد ببريطانيا، ورفض زينب للشَّائعة التي نمت في هذه البيئة يوضحُ أثر الثَّقَافَةِ التَّحْتِيَّة في تَشْكِيلِ الوعي مُقَارنة بوعي زينب المتشكِّل في بيئة مُضادة، وهو ما أهلَّها لاستهجان الشائعة والسخرية منها.
تبدو حالة المنفى الطوعي وتكرارها، حيث يتوازى فيها زوج زينب العائد من السُّعودية، وقد اختار هذه المدينة لأسباب تجهلها الزوجة، وقد فَتَحَ له محطَّة بنزين، وإلى جانبها، بَنَى ورشة لتصليح السَّيارات وبيع قطع غيار السَّيارات، تتوازى مع حالة الحاج مخاوي (من قبل) ثم زوج ابنته الحاج المهتدي، كاشفة عن تراتبية في القهر، فأولاً الهروب إلى المجهول ينبئ عن ثمة قمع سلطوي مارسته السُّلطة على الأفراد، فآثروا الهجرة واختيار المنفى طواعية، وما صاحبه من الانسلاخ عن ماضيهم وذواتهم، والعيش في كنف ذوات أخرى جديدة لا تمت بصلة لذواتهم بعلاقة. ليس ثمة سبب ظاهر لحالة الهروب المتكرِّرة، لكن ثمة حقيقة واحدة أكيدة، إن الخوف هو باعثه، والهروب من سلطة قامعة استبدلت أبناء الوطن بالمستعمر الذي رَحَلَ. وقد جاء فِعْل النَّفي الطوعي بالسَّلب، حيث سَلَبَ المرأة حرية الاختيار، فانقادت النساء الثلاث خلف أزواجهن مسلوبات الإرادة، وَمُصَادَرات السؤال عن: لماذا الارتحال؟!
-4
مَارَسَ الشَّيخ ألاعيبه عليها، وكذلك بادلته نفس الألاعيب (وهو ما يشي بمقاومتها للوصايا الأبوية)، فما أن ضَعُفَ أمام الجمال والشَّباب (وقد قرأته منذ اللقاء الأول)، أفصحَ عن نيته بعد تكرار فشله في ترويض الجنِّي، لكن بطريقة ملتوية، بإدعائه أن حالتها مُعَقَدَّة وأن الجنِّي دُخَاني، ومن ثمَّ يجبُ الزواج بها حتى يستطيعَ أن يُسيِّطرَ على الجن. العجيب أنها قاومت رغبته في الامتلاك بإدِّعاء الغباء، وتصديقها لما قال، مع أنَّها مِنْ أَوَّل وَهْلَةٍ قالت عنه: إنَّه دَجَّال، ومع أنه سَمِعَ قولها إلا أنَّه مَارَسَ الغباء، الذي أرتدَّ عليه بعد ذلك بقبولها الزواج، كوسيلة بها يتحسَّن حالها هي وأمها ( 35) ومع أنها لم تُسَلِّمْهُ ما اشتهاه، في المقابل لم يُجْبِرْها على شيءٍ، وهو ما زَادَ مِن محبته في قلبها، إلى أن يأتي يوم ليكشفَ لها عن محنته، واكتشفت وقتئذ أن هذا العَالم الذي قد يراه الآخرون فيه قادراً على تسخير الجان، ويتحوَّل أمام سطوته الكبار إلى مساخيط، ليس بمثل هذه الصُّورة بل هو هَشٌّ ضَعِيفٌ، في نَظَرِ زوجته الأولى التي تتهمه بالعَجْزِ في عِلاج ابنه، وأمام نفسه لأنه يعرف أن ما يفعله ليس حقيقة بل هي تمثيلية، يَضحك بها على الناس من أجل المال، ومع تراكم المشاكل خاصة بعد هروب ابنه واتهامه بأنَّ ما يفعله حرام، وهو الذي اجتهد في تعليمه أسرار المهنَّةِ، ثم يزهد مع صاحب طريق إلى أن يقوده المصير إلى جيبوتي يعمل في متجر لبيع القماش، أما الثاني وقد صار مُعَلماً، فيعيبه الانتساب إلى أبيه المشعوذ، وأخذت تتباعد بينهما المسافة، وإن بقيت المساعدة المالية هي الرابط الوحيد بينهما، لكن في ظل وطأة السُّخْرية، ضَاقَ به الحال، والتحق بالجبهة وَقُتِلَ في محافظة ريمة. وكأنَّ نَسَقَ القِيَّمِ الذي خَرَقَهُ الأب بأفعاله وعمولاته يَنْتَصِفُ وينتقم منه. وعند هذا المصير والسُّخرية اللاذِّعة من زوجته، يُقرر الرَّحِيلَ عن هذه المدينة، إلى الواحة بين الجبال، وطي صفحة الماضي باسم جديد يختاره ،ومع استقرار الحال بعض الشيء في المكان الجديد إلا أن الدولة التي أرادت أن تؤكد وجودها، تعتقله، دون أن يعرفَ أَحدٌ سَبَّباً لهذا الاعتقال حتى تَتَسَرَّبَ الأنباء، أنَّه مُتوِّرطٌ في قَضيةٍ كَبيرةٍ، صَاحِب تنظيمٍ سِريٍّ مُعَادٍ للدولة، وتنصحها زينب العائدة وزوجها من السعودية، الصَّديقة الوحيدة في المكان الجديد، بأن تكتبَ الشَّكاوى للمحافظ وأجهزة الدولة الرَّسمية، لكن كلها تفشل، حتى تبدأ الأساطير والحكايات الخرافية، عن هروب الشَّيخ من السِّجْن أثناء الحريق الذي نَشَبَ فيه، وهناك مَنْ يُقْسِمُ بأنْ شَاهَدَ شخصاً يقتحم النيران وينتزِّع الحاج من فراشه ويأخذه بعيداً خارج السِّجن في لمح البَصر، وآخرون يروون أن رجلاً محروقاً مرَّ بهم وطَلَبَ منهم شَرْبَةَ مَاءٍ وأنَّ الإناء المعدني الذي شَرِبَ منه تحوَّل إلى كُتْلة لهبٍ، أما الرَّجُل فقد اختفى عن أنظارهم ولم يجدوا له أثراً (ص 89) وغيرها من الحكايات التي تجعلُ من الرَّجُلِ أُسطورةً، وفي المقابل تعكس لتَصَلُّبِ بِنيَّة الوَعي في مثل هذه المجتمعات.
-5-
ربما لم يمارس الحاج المهتدي ذكورية مع أصيلة من النوع الفجّ، حتى أنه كَبَتَ رغبته فيها مُنْتَظِراً نُضْج العَلاقة الزَّوجية بينهما، بحكم معرفته بأَسْرار النَّفس وضعفها، علاوة على ما وفرَّه من ظلٍّ افتقدتْهُ في زيجات سابقة وفارس أخذت تبحثُ عنه، كان أزواجها السَّابقون أبعد عن أن يمثلوه. وكذلك ما تركه لها الشَّيخ من مَالٍ ،بل سَاعدها في استعادة المال الذي أضاعه الإخوة من قبل، إلا أن حالة الاختفاء وما أعقبها من إشاعات مَسَّت شرفها، بأن ثمة علاقة بينها وبين زوج زينب، تؤكِّد أنها وقعت أسيرة الفعل الذكوري، حتى أنه صادر عنها حرية الاختيار، وأجبرها على الانقياد خلفه إلى مصير انتهى إلى مأساة بعد اختفائه ومطاردة السُّلطة له. فحالة الهروب من مدينته وموارته الماضي القديم خلفه، تؤكد أنَّ ثمة صِراعاً بين السُّلطة والفرد، والذي سينتهي بهزيمة الفَرد في مواجهة السُّلطة، وللأسف أن نتائج الهزيمة تجرعتها المرأة، وكأنَّ ممارسة الأبوية تتساوى في حالتى الغياب والحضور، فلا فرق بين وجود الرجل أو غيابه، ففي الحالتين أثاره باقية عليها.
-6-
على الجانب المقابل للضربات التي كَالتها الذُّكورية للمرأة، هل لنا أن نقبلَ أنَّ المرأة وعلى مدار تاريخها الضَّارب في العَراقةِ والقِدَم، رضخت واستسلمت لتلك الانتهاكات التي نالت من جسدها وذاتها، الواقع يقول غير ذلك، إذا كانت جُمعة وقعت ضحيَّة لتلك الذكورية، فإن غيرها من النِّسَاء ردّ النِّصَال على النصال للرَّجُل مثلما فعلت زوجة الأخ الأكبر التي أخذت ما كوَّش من مال وهربت به مع آخر من ذوي السُّلْطة والبطش، ودَبَّر له مصيبة وأدخله السَّجن، وهناك من النِّسَاء مَنْ قاومت تلك النِّصَال والأخاديد بمشاركته أزمته، ومساعدته بالمال، مما يوحي بعجزه وتجريده من سلطويته مثلما فعلت زوجة الشِّيخ السَّيد الأولى عندما كانت تُسَاعِد ابنها بالمال دون أن يعلمَ الأبُ، بل أَخْفت عنه عنوانه، في نوعٍ من التأنيب والحرمان مقابل عجزه عن مساعدة ابنه كما كانت تتوَّهم. نفس الدور قامت به أم جمعة مع الأخ الأكبر الذي دخل السَّجن، فكانت تزوره، وما أنْ قرَّر زوج جمعة الرَّحِيل أبتْ أنْ تتركه وحده، وَفَضلَّت البقاء، فالأم استجابت في هذا إلى طغيان القوَّة، قوة العاطفة.
-7-
مع كافة النِّصَال التي سعت الذكوريِّة ورديفاتها للنيل من جُمعة كرمز للمرأة، إلا أنَّ النَّصَّ انتصرَ لها، وقبلها انتصرَ لها نسق القيم مع إخوتها الذين سلبوها المال، فتصدير المؤلف للاسم الأنثوي، المُسْتَهْجَن من قِبَل الأزواج، وما قابله من مصادرة لهوية حامله، لانتمائه لثقافة مضادة للحداثة، في حَدِّ ذاته إعلاء لمكانتها، وسخرية ممن اهتموا بالزُّخْرف على حِسَاب الجوهر. هذا من جانب، ومن جانب آخر اعتراف بالهوية المصادرة، والتي يستعيدها النص، عبر سرد السيرة الوجودية لصاحبته. كما أن المرَّاوحة في السَّرد بينها وبين الرَّاوي المذَّكر، وإن غلبتْ مساحة المونولوجات التي سَرَدتها الذَّات الأنثوية جُمعة، يؤكد تلك الهيمنة، التي استطاعت أن تجردِّهم عبر الورق من ذكوريتهم التي يتباهون بها، والأهم أنه مع كُلِّ الظروف التي حَاقتْ بها، إلا أنَّ تواجدها في هذا المكان العاصمة صنعاء (مشهد البداية)، ثم نعرف أنها قادمة مع ابنتها هداية من زوجها الشِّيخ السَّيِّد، التي ستشارك في معرض الرَّسم الحُرِّ بمناسبة اختيار صنعاء عاصمة الثقافة العربية، هو رسالة ذات دلالة قوية بأن المرأة التي طالما هُمِشَّتْ وأُقْصِيَّتْ من المشهد، هي نفسها التي تقود مسيرة التنمية والنهضة والثقافة في بلادها، جنباً إلى جنب مع الذي امتهنَّ ذاتها، وسعى بكافة الأشكال إلى طمسها، فتخرج قوية صُلْبَة مستعيدة ذاتها، فهل تصل الرِّسَالة إلى مستقبليها، والأهَمُّ أن تجد جواباً عملياً لها على أرض الواقع؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.