أسعار الذهب والسبائك اليوم الأحد 12 مايو    مفاجأة في سعر الدولار اليوم في البنوك    بورصة الدواجن اليوم بعد الانخفاض.. أسعار الفراخ والبيض الأحد 12 مايو 2024 بالأسواق    الحكومة: إجمالي الأجانب المقيمين في مصر 9 ملايين مهاجر    بايدن: وقف إطلاق النار في غزة مشروط بإطلاق حماس سراح الرهائن    حماس تعلن وفاة محتجز إسرائيلي في غزة    جوميز يستقر على تشكيل الزمالك أمام نهضة بركان في ذهاب نهائي الكونفدرالية    موعد مباراة الأهلي القادمة أمام الترجي التونسي في ذهاب نهائي دوري أبطال إفريقيا    أول تعليق من بلدية المحلة بعد خسارته أمام الأهلي    ترتيب هدافي الدوري الإسباني قبل مباريات اليوم الأحد 12- 5- 2024    "هتذاكر وتعيِّد".. إجازة عيد الأضحى 2024 هُدنة طلاب امتحانات الثانوية العامة    طقس اليوم حار نهارا مائل للبرودة ليلا على أغلب الأنحاء.. والعظمى بالقاهرة 29    السكة الحديد تعلن عودة حركة القطارات بين محطتي الحمام والرويسات بمطروح    التعليم توجه تحذير لطلاب صفوف النقل اليوم    محمد رمضان يتألق في حفل زفاف ابنة مصطفى كامل    إسلام بحيري يكشف مصادر تمويل حركة تكوين    بعد.سحبه من الأسواق.. الصحة: لم نستورد أي لقاحات من استرازينيكا منذ عام    "اعرف هتقبض إمتى".. متى يتم صرف مرتبات شهر مايو 2024؟    أستراليا تشكل لجنة لمراقبة تأثير مواقع التواصل الاجتماعي على المجتمع    رئيس اليمن الأسبق: نحيي مصر حكومة وشعبًا لدعم القضايا العربية | حوار    وزير الرياضة يفتتح أعمال تطوير المدينة الشبابية الدولية بالأقصر    45 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات على خط «طنطا - دمياط».. الأحد 12 مايو    نشاط مكثف وحضور جماهيرى كبير فى الأوبرا    الهدنة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية قد تبدأ خلال ساعات بشرط وحيد    تثاءبت فظل فمها مفتوحًا.. شابة أمريكية تعرضت لحالة غريبة (فيديو)    مفاجأة صادمة.. سيخ الشاورما في الصيف قد يؤدي إلى إصابات بالتسمم    «آمنة»: خطة لرفع قدرات الصف الثانى من الموظفين الشباب    الحكومة: تعميق توطين الصناعة ورفع نسبة المكون المحلى    بطولة العالم للإسكواش 2024| تأهل 4 لاعبين مصريين للجولة الثالثة    طلاب الصف الثاني الثانوي بالجيزة يؤدون اليوم الامتحانات في 3 مواد    البحرية المغربية تنقذ 59 شخصا حاولوا الهجرة بطريقة غير شرعية    ما التحديات والخطورة من زيادة الوزن والسمنة؟    عاجل.. غليان في تل أبيب.. اشتباكات بين الشرطة الإسرائيلية ومتظاهرين واعتقالات بالجملة    عمرو أديب ل إسلام بحيري: الناس تثق في كلام إبراهيم عيسى أم محمد حسان؟    يسرا: عادل إمام أسطورة فنية.. وأشعر وأنا معه كأنني احتضن العالم    أبو مسلم: العلاقة بين كولر وبيرسي تاو وصلت لطريق مسدود    "الأوقاف" تكشف أسباب قرار منع تصوير الجنازات    يا مرحب بالعيد.. كم يوم باقي على عيد الاضحى 2024    أستاذ لغات وترجمة: إسرائيل تستخدم أفكارا مثلية خلال الرسوم المتحركة للأطفال    ملف رياضة مصراوي.. مذكرة احتجاج الأهلي.. تصريحات مدرب الزمالك.. وفوز الأحمر المثير    خطأ هالة وهند.. إسلام بحيري: تصيد لا يؤثر فينا.. هل الحل نمشي وراء الغوغاء!    رئيس بلدية رفح الفلسطينية يوجه رسالة للعالم    أرخص السيارات العائلية في مصر 2024    حبس سائق السيارة النقل المتسبب في حادث الطريق الدائري 4 أيام على ذمة التحقيقات    إصابة 7 أشخاص إثر انقلاب ميكروباص بمدينة 6 أكتوبر    بعيداً عن شربها.. تعرف على استخدامات القهوة المختلفة    حظك اليوم برج العذراء الأحد 12-5-2024 مهنيا وعاطفيا    «التعليم» تعلن حاجتها لتعيين أكثر من 18 ألف معلم بجميع المحافظات (الشروط والمستندات المطلوبة)    4 قضايا تلاحق "مجدي شطة".. ومحاميه: جاري التصالح (فيديو)    علي الدين هلال: الحرب من أصعب القرارات وهي فكرة متأخرة نلجأ لها حال التهديد المباشر للأمن المصري    خلال تدشين كنيسة الرحاب.. البابا تواضروس يكرم هشام طلعت مصطفى    وزارة الأوقاف تقرر منع تصوير الجنازات داخل وخارج المساجد    تيسيرًا على الوافدين.. «الإسكندرية الأزهرية» تستحدث نظام الاستمارة الإلكترونية للطلاب    رمضان عبد المعز: لن يهلك مع الدعاء أحد والله لا يتخلى عن عباده    الرقابة الإدارية تستقبل وفد مفتشية الحكومة الفيتنامية    رئيس"المهندسين" بالإسكندرية يشارك في افتتاح الملتقى الهندسي للأعمال والوظائف لعام 2024    نقيب الأطباء يشكر السيسي لرعايته حفل يوم الطبيب: وجه بتحسين أحوال الأطباء عدة مرات    ما حكمُ من مات غنيًّا ولم يؤدِّ فريضةَ الحج؟ الإفتاء تُجيب    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



سحر خليفة: الفردوس المفقود والحب الضائع
نشر في نقطة ضوء يوم 01 - 09 - 2009

تقول الروائية سحر خليفة الفائزة بجائزة نجيب محفوظ عن روايتها «صورة وايقونة وعهد قديم» ان الأدب ليس مصدرا للارتزاق أو السلطة، مشيرة إلى أنها تعتبر نفسها فنانة عاشت الاحتلال ورأت فجائعه وآثاره المدمرة. وقد تزامن حبها للفن وأحاسيسها الحزينة بالأثر الذي تركه الاحتلال على حياة الناس ومعيشتهم وقيمهم فجاءت كتاباتها رصدا وانعكاسا لأثر الاحتلال علينا«كبني آدميين». كما جاءت روايتها الفائزة لتتحدث عن القدس التي كانت تعرفها ولا تعرفها، ولم تعرفها إلا حين قصدت الكتابة عنها فذهبت لتعيش في دير أثري طوال أسابيع لتتمكن من اكتشاف القدس من داخلها، من شوارعها وأزقتها، من مساجدها وكنائسها، من أقبيتها وسقوفها وطرقاتها التي تشبه المتاهات، فجاءت الرواية لتحكي عن مسيحية ومسلم يعيشان حالة من الحب المستحيل تحاربهما فيها الوقائع، ثم النهاية التي تتمخض عن حب كبير وضياع أكبر. إنها رواية الحب الضائع بكل تجلياته.
وتضيف صاحبة «الميراث» أن أول رواية كتبتها كانت محاولة لم تنشر، لأنها صودرت منها بعد عودتها من ليبيا إلى فلسطين، وبقيت معتقلة في أدراج الاحتلال.
* كنت أول فائزة بجائزة نجيب محفوظ بعد رحيله، ما هي التداعيات التي خالجت نفسك وأنت تتسلمينها؟
- الحقيقة أنها كانت مفاجأة. لقد اتصلت بي من هيئة التحكيم الدكتورة سامية محرز، لتبلغني بالفوز، وقالت إن القرار كان بالإجماع، وهو ما لم يحصل من قبل. وسألتني إن كنت أوافق على قبول الجائزة وعن استعدادي للحضور إلى القاهرة. فقلت وأنا مندهشة بأني لم أتقدم بطلب للجائزة، ولم يكن لدي علم بأن روايتي قد رشحت من قبل أي من الجهات التي أعرفها. هذا هو الواقع. والحقيقة أنها كانت مفاجأة لأنني كنت اشعر أنني خارج الصف، أي خارج الجو المرضي عنه، والأدباء المرضي عنهم. ففي فلسطين تم تكريم الهواة ممن بالكاد صدر لهم عمل روائي واحد، بينما لم يتم ذكري من قبل سلطتنا الثقافية والسياسية على الإطلاق. هذا مع العلم أني نلت جوائز عالمية مثل جائزة البرتو مورافيا في روما وجائزة ثرفانتس في مدريد. أما في بلدي فلم أحصل إلا على الإغفال والتحاشي. وربما كان ذلك كعقاب لي على ما أبديه من استياء ونقد لما يحدث في وطننا وخصوصا في روايتي «الميراث» التي أسهبت فيها في وصف الأوضاع المتردية والوطن المحاصر من الداخل والخارج. لكني كنت قد وطنت نفسي على ألا أعبأ بتقييمات هؤلاء لأني لا أكتب من أجل حصد الجوائز. أنا كاتبة ذات قضية، والجائزة هي آخر ما أفكر فيه. وبظني أن المبدع الذي يسعى للجوائز لا يمكن أن يحصد شيئا، وهو كمثل الباحث عن منصب، يعيش عمره زاحفا خلف السراب واصطياد السحب ولا يجني إلا الغبار ورذاذ المواسم.
بالنسبة لي، لم أكن اطمع بجائزة أو منصب، فالأدب ليس مصدرا للارتزاق أو السلطة، وكل ما في الأمر أني اعتبر نفسي فنانة عاشت الاحتلال ورأت فجائعه ومآسيه. وقد تزامن حبي للفن وأحاسيسي الحزينة الثائرة بالأثر الذي تركه الاحتلال في حياة الناس ومعيشتهم وقيمهم، فوجدت أن أوجه فني لرصد الاحتلال ومآسيه وأثره علينا«كبني آدميين».
رواية معتقلة
أول رواية كتبتها كانت محاولة لم تنشر، لأنها صودرت بعد عودتي من ليبيا حيث كنت أعيش وأعمل. حاولت إدخالها عبر الجسر لأني كنت ارغب في نشرها عن دار الأسوار في عكا التي كان يصدر عنها غالبية الإبداع الفلسطيني وقتذاك. كانت الرواية ترصد دخول القوات الإسرائيلية إلى نابلس سنة 1967. فيها وصفت كيف عشنا الهزيمة وصدمة الاحتلال الأولى وحالات حظر التجول، وردود فعل أبناء المدينة من خلال شخصيات تقطن عمارة سكنية، شخصيات تختلف في كل شيء، في أفكارهم وتوجهاتهم وسني عمرهم، ويختلفون بردود أفعالهم لمواجهة الهزيمة.
كنت قد نسخت الرواية في دفاتر ابنتي الصغيرة للتمويه، إلا أن الضابط الإسرائيلي قام بمصادرتها، وطلب مني الانتظار حيث مكثت ساعات طويلة على الجسر بانتظار التحقيق. وعندما سألوني عما هو مكتوب، قلت أنها دفاتر دروس بناتي. أخلوا سبيلي بعد أن أخذوا عنواني الكامل لمراجعتي ومتابعتي. وبعد أيام من زيارتي لنابلس عدت إلى عمان ثم ليبيا. فأرسلت أمي تقول لي أن المخابرات الإسرائيلية جاءت تبحث عني، وأنهم جاءوا في ساعة متأخرة من الليل، كما لو أنهم يبحثون عن مطلوب. وحذرتني من الرجوع، لكني رجعت بعد عام 1970، وبقيت الرواية معتقلة في أدراج الاحتلال، ولم تر النور، ولا اعرف ما حل بها.
حين عدت إلى نابلس عام 1972، وكنت قد كتبت رواية «لم نعد جواري لكم» وسلمتها لدار المعارف في القاهرة للنشر، أخذت القرار بأن ابدأ حياتي من جديد. وكنت على قناعة بأن على الكاتب مسؤولية كبيرة تتطلب تطوير نفسه، فالمهم ليس ماذا نكتب، وإنما كيف نكتب؟ لان الكتابة حرفة وصنعة وثقافة، ومن هنا قررت الدراسة، والتحقت بجامعة بير زيت، التي لم تكن بالنسبة لي مجرد مؤسسة أكاديمية، وإنما كانت مدرسة حياة وبؤرة للتنوير، ومن خلالها تعرفت باليسار الفلسطيني، والعمل التطوعي، وحياة الناس وهمومهم بشكل مباشر، واكتشفت أنني كنت «غشيمة»، لا أعرف من الدنيا وعن الدنيا إلا صورا مرسومة من قبل أشخاص لا يعرفون الواقع، ولا يلمون بتفاصيله، ولا يعملون على تطويره. فعملت على تطوير نفسي وقدراتي وأدواتي، وما زلت أعمل.
الفردوس المفقود
* ماذا عن الرواية الفائزة صورة وايقونة وعهد قديم؟
- الرواية تتحدث عن القدس، عن الفردوس المفقود والحب المفقود. عن الحب الضائع والإنسان الضائع. عن الوطن والحب والبطولة. حاولت إثارة تساؤلات عن معنى البطولة والمقولات التقليدية عن البطولة، وقداسة القضية، لأنني عشت الواقع، ورأيت البطولات، ورأيت الوطن بوجهيه، ورأيت القضية بوجوهها. عندما أسمع من يتحدث عنها بطريقة شاعرية أتساءل عن جدوى البطولة الزائفة، وأتساءل عن المغزى من التعامل مع الفلسطيني أو القضية ببعد (ماركيزي)، أي البعد الواحد والوجه الواحد.
أنا أتحدث عن الصدمة التي أربكتنا جميعا حين وقعنا في فخ الصورة الواحدة. وقد عبر عن ذلك العديد من المبدعين الذين عادوا بعد سنوات الغربة، وصدموا حين رأوا الوطن بهذه الصورة المهلهلة، وان المجتمع بهذا المقدار من التمزق والتخلف، وان كل الأماني الجميلة ما كانت سوى أوهام فوق أوهام، وعبر كتاب أمثال مريد البرغوثي، محمود شقير، خليل السواحري، فاروق وادي، حسن خضر وغيرهم عن فجيعتهم حين رأوا أن الوطن الجميل العطر لم يكن جميلا، ولم يكن عطرا. حينذاك أخذوا يكتبون كما كنت أكتب. بمعنى أني كنت أكتب عن ذلك قبلهم لأني عشت الوطن بتحولاته، عشت فيه حين كان عطرا، أي قبل أن يصبح مشوها. من البداية كنت أرى الوطن بوجهيه، ليس لدي أوهام وأحلام رومانسية لأني عشته من الداخل، ولا استعيض عن الواقع بالذاكرة أو الأحلام. وعندما كنت اكتب عن المواضيع الشائكة، كنت أتعرض للهجوم بأن يقال أني اعكس ذاتي الممرورة بتجاربها المحبطة على الوضع العام والمجتمع بكامله وأني انشر غسيلنا(القذر) على الملأ بدون خجل. لكني كنت مقتنعة، وما زلت، ألا علاج بدون وصف للداء وتشخيص المرض. نحن لن نستطيع علاج الأدران والأورام واستئصال المرض بدون الاعتراف بأن لدينا مرضا، وأن هذا المرض لا يخصنا وحدنا كفلسطينيين، بل هو عام طام وينفرش على الأمة بكاملها. حين نعرف هذا ونعترف به، نكون قد خطونا الخطوة الأولى بالاتجاه الصحيح، أي باتجاه العلاج.
كنت أتمنى، وهذا مشروعي وما يزال، أن أمكن الجميع(كل الناس)، من الحديث عن فلسطين بشكل واقعي، ناضج، ومسؤول. أن يقولوا ما يجول في أعماقهم من هم ووجع بصدق وشجاعة. وأن أفتح نافذة حقيقية واقعية على فلسطين، لرؤية فلسطين كما هي، من غير تزويق أو تجميل أو أحلام رومانسية. أنا مزيج من الباحثة والروائية.
عندما كنت أقول أن فلسطين هي المختبر للوطن الأكبر، كنت اعني أن ما يحدث في فلسطين سيحدث في الوطن العربي. وحقيقة ما أراه، أن ما يجري في فلسطين يمكن أن يساعد على فهم ما يجري في أي جزء من العالم العربي، في مصر، في العراق، في لبنان وسوريا وحتى اليمن. بالنسبة لي، فلسطين هي المختبر الأصغر لواقع أكبر منا، أصعب، أعوص، أدهى وأمر.
أخوات «الصبار»
* يقول الكثيرون من المتابعين أن رواياتك اللاحقة هي تولدات عن روايتك الأولى «الصبار»، فماذا تقولين؟
- بالنسبة لي فان مشروعي الروائي هو رصد تأثير تجربة الاحتلال على المجتمع الفلسطيني في تحولاته المختلفة، وبالتالي فإن رواياتي هي حكاية مجتمع بأسره... وهذا المجتمع مليء بالقصص والثيمات الحكائية وبكثير من الهزات والتحولات والظواهر القابلة للاستنتاجات التي يمكن تعميمها على مجتمعات عربية بأكملها، وبرأي بعض النقاد فان الاستنتاجات التي اخرج بها عن فلسطين بالإمكان تطبيقها على الوطن العربي على كل المستويات.
صحيح أن «الصبار» أنتجت ست أخوات، وكلهن من رحم واحد، ذلك لأنهن جميعا من فلسطين وعن فلسطين. أنا اعتبر نفسي كاتبة محلية، وهذه أجوائي، وهذه نصوصي، وهذا بالتأكيد هو مشروعي.
عندما كتبت روايتي الثانية «الصبار» كنت في السنة الدراسية الثالثة، وحتما فان دراسة الأدب الانجليزي توفر الاطلاع على المدارس النقدية وتعرف بنظريات النقد الأدبي من ارسطو حتى الآن. وفضلا عن الوعي والمعرفة التي أضافتها لي الجامعة، فقد زودتني بالأدوات النقدية التي تمكنني من نقد نفسي، ونقد غيري. فالكاتب عليه أن يحلل الظواهر التي تستوقفه فكريا ولغويا وبنائيا ومضمونيا وما يربط بين كل هذه الجوانب من أبعاد. وقد ساعدتني دراستي الفرعية لعلم الاجتماع في التعرف على مناهج رصد الظواهر الاجتماعية، نظريا وعمليا. وقد تسنى لي ذلك من خلال الدراسات والبحوث الميدانية التي قمت بها والتي نتجت عنها «الصبار» التي تنبني على تجارب لا تخصني على الإطلاق، وإنما هي نتاج البحوث الميدانية على قطاع من المزارعين والعمال واستعمالهم للهجة الشعبية(العامية)، وقد كنت بدأت مثل تلك المغامرة، ولم أكن بعد قد اطلعت على تجارب الأدباء السود في أمريكا. وهي تجارب تغطي الأجواء بكاملها وتدخل المتلقي في مناخاتها الجغرافية والنفسية. وبالتأكيد هناك من يتزمت للغة، إلا أن هناك الكثير من الشواهد العالمية الناجحة التي تعاملت مع اللغة بشكل ثوري غير تقليدي، فاستعملت اللغة بظلالها المتعددة ونجحت في تطويعها وإخراجها من جمودها. وأعطي مثالا على ذلك مسرحية «بجماليون» لبرنارد شو.
إن نظرتي إلى اللغة تأتي في سياق البناء الاجتماعي العام الذي تتداخل فيه الظواهر الاقتصادية والثقافية والمثولوجية ومراعاة عدم الفصل بين عناصرها وتركيبة المجتمع. أنا الآن مقتنعة، بحكم الواقع الذي عشته ودرسته وكتبت عنه، أن المجتمع المتخلف اجتماعيا لا يمكن أن ينتج سياسة متطورة. وأظن أن الأمر لم يكن ليتسنى لي من دون الدراسة الأكاديمية التي أوضحت لي الطريق الذي اخترته لنفسي في كتاباتي بحيث أصبح لأدبي علامة مميزة لها طابعها الخاص.
إن الإجابة تعتمد على السؤال الذي يطرحه الروائي حول مشروعه الإبداعي. ومن المؤكد أننا لا نستطيع أن نفصل بين هواجس الروائي وحياته وانطباعاته والأدب الذي يكتبه. ذلك لأن الأدب هو بالضرورة أداة تعبير عن الحياة وتجاربها. وبالنسبة لي لا استطيع الكتابة عن أميركا اللاتينية، حتى لو تسنى لي ذلك، لأن المكان ليس مكاني والمجتمع ليس مجتمعي والأحداث ليست ملكي. وكذلك لا يمكن أن اكتب عن السنغال أو حتى عن مصر، لأني لو فعلت، فسأفقد الصدق والمصداقية. منطلقي المنطقي هو المكان الذي عشت فيه، مكاني أنا، مجتمعي أنا، ألمي أنا، جذري وتجربتي وتاريخي. وهذا يعيدنا إلى السؤال حول المحلية والعالمية. وهذا يذكرني بمقولة أن العالمية تبدأ من باب بيتك.
الشعر مراهقة الأدب
* قلت في غير حديث انك حين تقرئين الشعر تصابين بالخيبة، لان ما تحمله القصائد لا يمت للواقع بصلة، كيف تفسرين ذلك؟
هذا موقفي من الشعر ككل، وليس الشعر الفلسطيني تحديدا. بعد 1967 «بطلت اعرف اقرأ شعر»، وهذه ليست مشكلتي وحدي، بل هي مشكلة المتلقي العربي بشكل عام. وهذا رأي العديد من الناشرين أيضا الذين صرحوا مرات عديدة ، أن هناك انحدارا في مبيعات الكتاب الشعري، وان هذا كان لمصلحة الرواية التي أصبح لها حضور كبير بسبب استيعابها لكل الأنواع الأدبية الأخرى، وكذلك لقدرتها على رصد التحولات الاجتماعية وتحليل الظواهر الإنسانية وشمول أسئلتها المعرفية التي تتداخل فيها صنوف المعارف والعلوم. والرواية، فضلا عن ذلك تستطيع استيعاب القصيدة في متنها، وفي رواياتي هناك توظيف للشعر، وباختصار أنا اعتبر أن الشعر هو مراهقة الأدب، فيه نوع من الشطح الذي لا يمثل الواقع...صحيح أن المراهقة قد تكون المرحلة الأجمل في حياة الإنسان لشفافيتها ورومانسيتها ونضارتها، لكنها ليست الأنضج ولا الأوضح. والشيء الأكيد أن الرواية ليست مجرد نثر جميل أو كتابة مقالة، فهي فن يقوم على بناء الشخصيات التي هي عماد الحكاية. فمن خلال تفاعل الشخصيات مع بيئتها المحيطة، نستطيع أن نرصد مجتمعا بأسره. وهذه القدرة في رسم الشخصيات والمشاهد مختلفة عن قدرات الشاعر، فالروي يتصل بالقدرة على اللعب بالأصوات، بمعنى أن تكون ممثلا بارعا، قادرا على التمييز بين الأصوات، بأن تضع نفسك في شخصيات مختلفة بخلفيات مختلفة، وتتخذ لوجهك عددا من الأقنعة كممثل ناجح. الشاعر لا يستطيع أن يحكي إلا بصوته، أما الروائي الجيد فبإمكانه القيام بدور الممثل الجيد الذي يتمكن من القيام بكل الأدوار على اختلافها وتنوعها.
«اصل وفصل»
* ماذا عن مشروعك الروائي المقبل؟
- أعكف الآن على رواية بعنوان «أصل وفصل» وأظن أنها ستطول، وإذا كانت كتابة «الميراث» قد استغرقت سبع سنوات، فأظن أن هذه الرواية ستستغرق مثل تلك المدة وربما أطول. ستكون مرهقة. أحاول فيها أن أرصد مرحلة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي لجيلين أحدهما يستعد لإقامة الدولة اليهودية والآخر يحاول منع قيامها. هذه الرواية تحاول تصوير اختلاف الوعي والإمكانيات والاستعدادات لدى الجانبين، اليهودي والعربي. واعتقد أنني اذهب في الرواية الجديدة إلى منطقة مختلفة عن أعمالي السابقة بمعنى أني سأكتب عن مرحلة تاريخية لم أعشها.
حتى آخر رواية لي: «ربيع حار» كانت أعمالي تقوم برصد التحولات التي يعيشها الإنسان الفلسطيني تحت الاحتلال. في الأعمال الأولى كانت النهايات تتميز بالروح المتمردة على الواقع والانفجارات الثورية، وبعد ذلك تحولت النهايات إلى انفجارات عبثية كما حدث في نهايات «الميراث» و«صورة وأيقونة وعهد قديم» و«ربيع حار». بمعنى أن هناك اختلافا في المراحل واختلاف في النضال واختلاف في نتائجه. رواياتي هي قصة طويلة متسلسلة ترصد حكاية شعب، وهو مسلسل أتمنى أن أعيش حتى كتابة مرحلة تحريره واستقلاله وقيامه من كل هذه التجارب المريرة سليما معافى، ولكن ....
- في الأعمال الروائية التاريخية يخشى دائما من الوقوع في شرك التأريخ، كيف يمكن للروائي أن يحافظ على الخط الفني بإزاء طغيان الوقائع والأحداث؟
هذا ما يشغلني، وهو التخوف من أن انتقل إلى التدوين التاريخي، أو كتابة المقالة. وهذه إحدى المشكلات التي يواجهها الكاتب الواقعي. وأظن أن الباروميتر أو الملجأ للخروج من هذا المأزق هو بالرجوع إلى الشخصيات ودخائلها وعواملها النفسية وردات فعلها إزاء الواقع وما ينتابها من هواجس وكوابيس وأحلام. ولكن حتى الشخصيات يمكن أن تقع في التنميط والتسطيح، وتصبح داعية سياسية مملة، أو مجرد امرأة موتورة تعبر عن سورة غضبها وتمردها، وهذا يتطلب الحذر والمراجعة بشكل دقيق. مثلا، أنا الآن اكتب عن الشهيد عز الدين القسام، وأخاف جدا من أن تفلت الشخصية من يدي وأقوم بتصوير القسام بشكل مسطح بحيث يبدو كشخصيه نمطية لخطيب مسجد يخطب في الناس ويقدم لهم المواعظ والإرشادات. من المهم وأنت تكتب أن تستحضر المشاعر والأحاسيس التي تمثل عمق الشخصيات، وليس ظاهرها.
في إحدى المرات سألت ممثلة أميركية مشهورة عن سر تقمصها للأدوار بتلك البراعة وكيف يتسنى لها أن تستحضر كل ذاك الكم المقنع من الحزن أو الفرح فقالت إنها في تلك المواقف والمشاهد تعمد إلى استخراج ما استبطنته من أحاسيس أثناء مرورها بتجربة مشابهة للمشهد الذي تقوم بتمثيله. وهذا برأيي ما يحاول الروائيون فعله، أي استرجاع ما استبطنوه من تجارب وأحاسيس مشابهة لما تمر به الشخصية في الرواية ويحاولون تلبيس مشاعرهم لشخوصهم. وهذه عملية ليست سهلة، وبحاجة للكثير من المراس والتعمق والتوغل. ولهذا لا أكف عن التساؤل: هل ما اكتبه يعبر عن عمق الشخصية، وهل له مصداقية؟ هنا استذكر ما كتبه أحد النقاد حين تساءل عما كتبه عبد الرحمن منيف في سيرته الذاتية أثناء وجوده في عمان قائلا: كيف يمكن لابن سبع سنوات أن يصف ويحلل بتلك الطريقة الناضجة الحكيمة؟ بمعنى أن هناك تخوفا من أن ينزلق الكاتب ويكتب من موقعه بدلا من موقع الشخصية التي يكتب عنها أو المشهد الذي يحاول تصويره. هذا مثال على أن على الروائي أن يكون يقظا فلا يعير ذاكرته من موقعه وهو ابن الستين لطفل لا يتجاوز السابعة من عمره، لأنه حين يفعل ذلك يفقد مصداقيته وواقعيته ويخلق بينه وبين القارئ المتشكك فجوة.
بطولات عبثية
* كونك تتبعين مسيرة الشعب الفلسطيني في جل تحولاته، ماذا ستكتبين عن اللحظة الراهنة التي استبيح فيها الدم بين الأخوة؟
- لا يمكن أن اكتب عن وضع مثل هذا الوضع الذي تمر به فلسطين الآن. لن اكتب عنه حتى لو أرغمت. الوضع قاتم وقبيح، وينزع كل البطولات ، ويلوث طهارة القضية ويسقطها في الوحل. مثل هذا الحدث يلقي بظلاله القاتمة على كل شيء، ويجعل نضالنا بلا هدف أو معنى. هذا جو غير قابل للكتابة، لأنني لا أحس بأي تعاطف معه ولا مع بطولاته التي تنتهي نهايات عبثية غير مبررة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.