تختلف المقاومة من مجتمع إلي آخر حسب رؤية هذا المجتمع لنفسه، وحسب العدو الذي يقاومه، وإذا كانت الجماهير -دائماً- ما تصنع أسطورتها من خلال نضالها ومحاولة جعل هذا النضال في أشكال فنية فإن ذلك يأتي تأكيداً لنظرية "الفن للمجتمع" والتي تشير إلي الفن ككل شيء في الحياة ينبغي أن يوجه لما فيه خير الناس والمجتمع، فالشاعر - علي سبيل المثال- لا ينشد لنفسه فقط- بل لغيره أيضا، فينبغي ان يحس بأحاسيس الجماعة ويعبر عن مشاعرها ويشاركها آلامها وبذلك يمنح تجربته العمق والأصالة. وإذا كانت هذه النظرية قد تم تجاوزها - الآن- إلا أنني مشدود جداً لقول "ستيفن سبندر": "أن مهمة الشعر لا تعدو مجرد تقرير موقف الحياة الإنسانية علي حقيقته، فلا يستطيع الشعر أن يفعل أكثر من أن يؤكد لنا ان كل من يجور علي الحياة يدفع ثمن ذلك غالياً". فهي أكثر ما تنطبق علي "أدب المقاومة" حيث يحقق المبدع في فنه وجوده، ووجود الآخرين من حوله، فالفنان ليس أداة اصلاح مباشرة للجماعة، إنما أداة توجيه ورصد وكشف وإضاءة، فمن غير المعقول أن يعيش بعيداً عن مجتمعه، فالأديب القومي - إن صحت التسمية- هو صاحب رسالة ونزعة إنسانية عميقة المغزي. والمثقف الذي لا يقاوم خائن لنفسه أولاً ولوطنه ثانياً، فالأصل في أي ثقافة أو في أي فن تجود به قريحة الفنان يتماس بطريقة أو بأخري مع فعل المقاومة وان اختلفت المسميات وأدوات التعبير. ولعل ما يحدث الآن من تراجع لمفهوم المقاومة في الثقافة العربية يعود في الأساس إلي تفضيل البعض لأساليب ينالون بها المنافع والمكاسب الشخصية، وهذا يعود بالسلب علي البنية الحضارية والثقافية للشعب. ولعل النقطة الأكثر خطورة- في هذا الصدد- هي فوضوية الأداء لهذه الثقافة داخل العقلية العربية الحالية، فإن وجدت شذرات لبوادر إبداعية تنتمي لهذا الاتجاه فإنها تتخذ شكلاً فردياً وخطاباً أحادياً، وهذا يتنافي - تماما- مع مفهوم المقاومة كفعل منظم، وبالتالي لابد وأن تكون ثقافة المقاومة- كرد فعل حيوي- منظمة الأداء، وهذا التنظيم لايقوم به فرد، فلابد من تكوين إطار عام لتغيير المجتمع من خلال فهم ناضج لظروف العصر الحاضر، فالمقاومة- في الأساس- استراتيجية المبني من خلال عدة أسس وهي "بناء مجتمع حضاري" و"تنشئة اجتماعية أسرية سليمة" و"وجود إعلام علي مستوي العصر" وهذا مازال غائباً- بصورة ما- عن مجتمعنا العربي. وربما تكون هناك بعض من بوارق الأمل تتجلي في منظومة العمل الشعبي، فعلي سبيل المثال أدت الانتفاضة الفلسطينية وحركة التضامن الشعبي العربي التي أحاطت بها إلي رد الاعتبار لثقافة المقاومة، بعد أن احتل دعاة ما سمي ب "ثقافة السلام" أو بمعني أدق "ثقافة التطبيع" مواقع بارزة في بعض الصحف وأجهزة الإعلام المختلفة محاولين إهالة التراب علي المعارك والتوجهات الوطنية وقد بدا المشهد وكأن دعاة هذا الفكر قد استولوا علي عقول ووجدان الأجيال الجديدة، وأن الحالة أصبح ميئوسا منها، وأن الثقافة العربية - العربية بعمق روافدها الشعبية والديمقراطية قد تراجعت لصالح ما سمي ب "الثقافة الشرق أوسطية" كهوية جديدة لرابطة جغرافية يشكل فيها كيان استعماري غاصب موقعاً بارزاً في خرائط الجغرافيا السياسية علي حساب النظام العربي "السابق" وقيمه ومؤسساته. ومن هذا المنطلق كان التأكيد علي الخطاب الشعبي كسلاح حيوي مرتبط بقضية الحرية، والبحث في داخل الذات الإنسانية عن منطلقات رؤيوية ستتجلي فعل الإبداع، فلغة المقاومة تجري علي ألسنة الشعوب الطامحة إلي الحرية مجري الدم في العروق في محاولة لايجاد صيغة مثلي للحياة. فالحرية - دائما- وراء الأفق يتطلع إليها الحالمون بوطن يصحو فيه الأطفال علي شمس ساطعة وسماء نقية وإذا كان المناضلون يرسمون ملامح الوطن- بصبر وجلد- فإن ما يقومون به - في حد ذاته- إبداع إنساني ضد القهر والظلم فنحن نري المشهد بأبطاله الحقيقيين وبأعلي صورة ممكنة، أبطال يرون في الموت الحياة، كما صورهم محمود درويش قائلاً: "لم يسألوا ماذا وراء الموت؟/ كانوا يحفظون خريطة الفردوس أكثر من/ كتاب الأرض/ يشغلهم سؤال آخر: ماذا سنفعل قبل هذا الموت؟/ قرب حياتنا نحيا، ولا نحيا./ كأن حياتنا حصص من الصحراء مختلف عليها".