من مظاهر الفوضي الأمنية والقانونية، التي يعيشها الشارع المصري في ظل تكريس كل الجهود الأمنية لخدمة وتأمين كبار المسئولين، وحراسة المواكب، انتشار البلطجة في مجتمعنا بشكل غير مسبوق، متخذة أشكالا متنوعة، هناك بلطجية لا يتفاهمون إلا بالرصاص، وبلطجية يستخدمون السنج والمطاوي، وبلطجية يرهبون الناس بزجاجات المولوتوف الحارقة، وآخرون يستخدمون ماء النار، وهذه في وجهة نظري من أخطرأنواع البلطجة ليس علي الضحايا فقط، ولكن علي المجتمع كله. ورغم أن جرائم إلقاء ماء النار ليست بالجريمة الجديدة علي المجتمع المصري وغيره من المجتمعات الشرقية، إلا أنها وفي ظل الانفلات الأمني والفوضي الحالية زاد انتشارها، وخاصة في المناطق الشعبية، التي سقط معظمها عمدا مع سبق الإصرار والترصد من اهتمام حكومة" نظيف" التي لاتهتم سوي بكنتونات ومدن الأغنياء، لأنهم أصحاب السلطة والنفوذ في مصر "رجال المال والأعمال". وجرائم إلقاء ماء النار أشد تدميرا وفتكا من وجهة نظري، لما تتركه من آثار نفسية مدمرة علي الضحايا، وبالتالي علي المجتمع، لأن جريمة القتل تنتهي آثارها بحدوثها، وهي معروفة العقاب والنتائج، أما إلقاء ماء النار فهو جريمة ممتدة الآثار والنتائج، مجهولة وغير محددة العقوبة، لاتندمل جراحها علي المدي القريب، وربما تعاني الضحية وتقاسي علي مدي طويل، فماء النار يحرق ويشوه، ليس فقط جسم أووجه، أو أعضاء الجسد، وإنما يشوه البناء الداخلي للضحية، فهو جريمة قتل مزدوجة التأثير، تحطم وتشوه الجسد والنفس، وهي إضافة إلي ذلك جريمة نفي وإقصاء وإبعاد وعزل للضحية، وحرمانها من الاندماج في الحياة، ولذلك يجب إعادة النظر في عقوبة هذه الجريمة، وأري أن تطبيق الشريعة الإسلامية في هذه الجريمة هو ما يمكن أن يردع من يفكر في ارتكابها، ويمنع من وقوعها. وصفحات الحوادث حافلة بالأخبار المؤلمة عن هذه الجريمة، ومنها :عاشق ينتقم من محبوبته بماء النار، بلطجي يشوه وجه المارة للاستيلاء علي أموالهم، سائق التوك توك يهدد فتاة بماء النار إذا لم يغتصبها، شاب يشوه وجه ابنة خالته بماء النار لأنها رفضت الزواج منه، وكل هذه أمثلة لجرائم انتقام بشعة والذي يجمعها اسم واحد لأداة الجريمة، وهي ماء النار التي تكمن خطورتها في مفعولها المدمر وإمكانية شرائها حتي من عند البقال. قضاة وآلهة والانتقام غريزة بشرية توجد داخل كل إنسان حينما يتعرض لأي موقف يعتبره من وجهة نظرة الشخصية إهانة و ظلماً له، مما يجعل بعض أصحاب النفوس الضعيفة يجعلون من أنفسهم قضاة وآلهة يحاكمون بأي شكل من أشكال الانتقام المتعددة، فهناك من يقدم علي القتل أو السرقة أو الاغتصاب أو الخطف كنوع من الانتقام والأخذ بالحق، وربما من أصعب أنواع الانتقام وأكثرها بشاعة وانتشارا خلال السنوات الأخيرة هو الحرق بماء النار، وهي مادة كاوية حارقة تسلخ اللحم عن العظام وتحلل أعضاء الوجه، والحرق بماء النار من أكثر وأخطر انواع العنف فهو يدمر حياة إنسان ويشوه معالمه ويجعله يعيش باقي حياته مشوها ويائسا ويزرع بداخله هو الآخر الرغبة في الانتقام فالانتقام لا يولد إلا انتقاماً مثله. ولا تخلو هذه الأيام من قصص مؤلمة يسطرها الواقع، تحولت إلي كوابيس مرعبة، وتحول أبطالها إلي جثث متحركة تدعو بعض من الناس الي النفور منهن والاشمئزاز والبعض الآخر الي الشفقة، فالحرق بماء النار يكون حكم العاشق علي محبوبته، حكم الخاطب علي خطيبته والزوجة علي زوجها، وآخر تلك الحوادث كان اقدام عاطل علي تشويه جسد خطيبته بماء النار عقب رفضها اتمام الارتباط به مما ادي الي اصابتها بحروق متفرقة بانحاء جسدها وتشوهات بالوجه. وقالت الضحية ان المجرم كان يوهمها انه يعمل في منصب حساس في الدولة وعندما اكتشفت كذبه وانه من اصحاب السوابق ردت له شبكته، فما كان منه الا ان انتظرها اثناء توجهها الي عملها والقي عليها " برطمان" ماء نار ولم تدر بنفسها الا وهي تصرخ بشدة والدخان يتصاعد من وجهها، وفر المجرم هاربا . كما قام صاحب محل بلاي ستيشنس بمحافظة 6 أكتوبر بإلقاء كمية من ماء النار علي جسد جارته صاحبة محل الملابس وأبنتها، انتقاما منهما لكثرة شكواهما منه بسبب الصوت العالي والضوضاء التي تصدر من المحل الخاص به . وشهدت منطقة دار السلام بالقاهرة واقعة بشعة، حيث قام عاطل بإلقاء ماء النار علي وجه خطيبته، مما تسبب في فقدانها البصر وإصابتها بتشوهات كبيرة وحروق خطيرة في الوجه والصدر واليدين، وذلك لقيامها بفسخ خطبته بعد أن اكتشفت أنه نصاب . وفي واحدة من أخطر جرائم البلطجة بماء النار، تلك الجريمة التي ارتكبها ثلاثة عمال بتحريض من رئيس الجمعية الزراعية المشتركة بكفر الدوار ترصدوا المحامي عبدالعزيز عبدالحليم سليمان وقذفوا وجهه بزجاجة ماء النار فأحرقوا وجهه وأصابوه بالتشوه انتقاما منه لكشف جريمة فساد في الجمعية الزراعية بمنشأة عامر. وسبق وتعرضت الفنانة الهام شاهين في ديسمبر 1998، لمحاولة تشويه وجهها بماء النار المركز الذي تبين عند اختباره أنه قد يؤدي للوفاة، حيث انتظرها الجاني وهو سائق لبناني استأجره طليقها السابق رجل الأعمال اللبناني عزت قدورة لأداء هذه المهمة، بعد أن رفضت العودة إليه وسمع بنبأ قرب زواجها، لكن الشرطة نجحت في انقاذ الفنانة وضبط الجاني. النساء.. أكثر الضحايا ومن متابعة أخبار الجريمة نجد أن أكثر ضحايا إلقاء ماء النار هن النساء، بهدف تشويههن والانتقام منهن وترك آثار جسدية ونفسية دائمة فيهن، و أغلب هذه الجرائم تحدث نتيجة رفض الفتاة للزواج من شاب ما فيقوم الشاب المرفوض بارتكاب هذه الجريمة بحق الفتاة أو بحق أحد أفراد اسرتها. ورغم أن هذه الظاهرة كانت بعيدة عن مجتمعنا المصري إلا أن محاضر الشرطة قد بدأت تسجل بعضاً من هذه الحالات، وقد يكون السبب وراء انتشار هذه الظاهرة هو غياب العقوبة الرادعة بحق مرتكبيها، وتوقفها علي ضمير القاضي وتقديره لخطورة الجريمة، مما يجعل عقابها غير رادع، ولايساعد في القضاء عليها، فحتي الآن لا توجد عقوبة محددة منصوص عليها لمعاقبة مرتكبي تلك الجريمة، فالقاضي الذي ينظر القضية هو الذي يحدد العقوبة التي يستحقها الجاني طبقا لظروف كل حالة والدوافع وراء الجريمة وهل يوجد سبق إصرار وترصد أم لا. ولذلك لابد أن تصبح هذه الجرائم وضرورة تغليظ عقوبتها قضية رأي عام، ولابد أن تتدخل اللجنة التشريعية بمجلسي الشعب والشوري في تعديل مواد قانون العقوبات الخاصة بهذه الجريمة، كما فعلت لجنة الصحة والسكان بالبرلمان السوداني، عندما طالبت بوضع عقوبات رادعة لظاهرة الانتقام بمياه النار علي أن تصل العقوبة إلي الإعدام، لما تفضي إليه من آثار نفسية وعاهات جسدية، ودعت اللجنة وزارة العدل وهيئة القضاء لاتخاذ إجراءات صارمة تجاه الجناة، وتعهدت بإدراج مواد قانونية في الدستور، لتوفير حماية كافية للمواطنين حتي لا تتفشي هذه الظاهرة. الشريعة الإسلامية هي الحل ومرة أخري أقول إن الشريعة الإسلامية هي الأفضل في معالجة مثل هذه الجرائم، والتي تطبق فيها مبدأ القصاص، فكما يقول الداعية الإسلامي الشيخ خالد الجندي: "الحد الشرعي في حالة الشخص الذي يلجأ لاستخدام مياه النار في الانتقام من غيره هو التعزير، وذلك التعزير يكون حسب العقوبة المغلظة التي يراها القاضي والتي قد تصل إلي القتل". ويضيف قائلا :" قد يري القاضي الشرعي أنه يجب المعاملة بالمثل، فإذا أدي هذا الحرق الناتج عن مياه النار إلي بتر أحد أعضاء المجني عليه وفقع عينه ففي هذه الحالة تفقع عين مرتكب هذه الجريمة ويقطع الجزء المماثل للمقطوع وهذا هو الشرع الإسلامي الواجب تنفيذه في مثل تلك الجريمة". وهذا ما حدث بالفعل في إيران التي تطبق شرع الله الذي يقضي بالجزاء من جنس العمل والعين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص فقد سمح القضاء لإحدي الفتيات بأن تسكب ماء النار علي وجه الشاب الذي شوهها وأحرق وجهها وأفقدها بصرها عندما رفضته بعدما تقدم إليها عدة مرات.. الفتاة رفضت أن تفعل ذلك، لكنها تمسكت بحقها في وضع ماء النار داخل عيني الشاب كي يعيش فاقداً للبصر مثلها طيلة حياته ويشعر بمدي الألم والعجز الذي تشعر به. نعم جرائم إلقاء ماء النار، قد يقول البعض إنها ليست ظاهرة عامة، ولكنني أري أنها جريمة خطيرة، من الجرائم الكثيرة المسكوت عنها، رغم أنها جريمة تشوه وجه المجتمع المصري، كما تشوه وجه الضحايا، ولذلك لابد أن نتحرك علي كافة المستويات، الأهلية من خلال مراكز وجمعيات حقوق الإنسان، وجمعيات المرأة، وحكوميا من خلال وزارة العدل، للعمل علي وضع عقوبة رادعة لها في القانون المصري. خير الختام: (لابد من تعديل تشريعي يحمي المجتمع من بلطجة ماء النار)