بعد اطلاعي علي الأخبار خلال الأسبوعين الماضيين اللذين قضيتهما في إجازة صُدمت لسماعي قصة مقتل عشرة من موظفي الإغاثة في أفغانستان عندما كان غرضهم الوحيد تقديم مساعدات طبية لقري أفغانية غالباً ما تفتقد للمستشفيات والمراكز الطبية. لكن الحادث الأليم علي ما ينطوي عليه من بعد مأساوي قد يفتح آفاقاً للتفكير في مستقبل أفغانستان وطرق التصدي للتمرد الذي تتزعمه حركة "طالبان"، ففريق الإغاثة سيئ الحظ كان يتشكل من ستة أمريكيين وبريطانيين، وقد تعرض للهجوم وهو في طريق عودته من رحلة طويلة وشاقة حملتهم إلي مناطق نائية في الشمال الشرقي لأفغانستان، حيث كانوا يقدمون خدماتهم الطبية للأهالي المعزولين هناك، ولم تتردد "طالبان" في إعلان مسئوليتها عن الحادث، مدعية أن الفريق كان يمارس أعمالا تبشيرية بين السكان المسلمين، وهي التهمة التي تجافي الحقيقة تماماً إذا علمنا أن بعثة المساعدة الدولية التي كانوا يعملون في إطارها تمنع رسمياً علي المنتسبين إليها ممارسة أية أعمال تبشيرية، ويكفي الإشارة إلي سجلها الطويل في العمل الإنساني للتأكد أنه لا علاقة لها بالدعوة للمسيحية، أو بأمور أخري دينية. بل كل ما في الأمر أن الأطباء الذين شكلوا الفريق كانت تحذوهم رغبة أصيلة وصادقة في مساعدة الشعب الأفغاني الذي عاشوا بين ظهرانيه لسنوات طويلة ونسجوا معه علاقات الود والصداقة. وعلي سبيل المثال قضي طبيب عيون وقائد الفريق "توم ليتل"، البالغ من العمر 61 عاماً -35 سنة في البلاد وهو يتحدث "الداري" بطلاقة، بحيث امتدت فترة عمله في أفغانستان إلي أيام الوجود السوفيتي ومن بعده حكم "طالبان"، وكان هناك أيضا "دان تيري" ذو 64 عاماً الذي أمضي هو الآخر عقوداً في أفغانستان ويجيد اللغة المحلية، بل إنه ساعد بعض مسلحي "طالبان" أيام حكمهم في علاج أمراض العيون التي كانوا يصابون بها! وضمن الفريق أيضاً كانت الجراحة البريطانية "كارين وو" ذات 36 عاماً التي تخلت عن مهنة مربحة وجاءت إلي أفغانستان لمساعدة شعبها، ثم "جلين لاب" الممرضة من مدينة لانكستر البريطانية التي كانت مغرمة بالعمل الإنساني، فلماذا إذن يقتل مثل هؤلاء الأشخاص؟ حسب المسئولين الأفغان قتل أعضاء الفريق علي يد قطاع طرق بهدف السرقة مع دخول "طالبان" علي الخط بادعائها المسئولية، لكن الطريقة التي قُتل بها أفراد الفريق والشبيه بتنفيذ الإعدام تنفي هذا الاحتمال، فالجريمة النكراء وقعت في منطقة "بادخشان" الواقعة في الشمال الشرقي لأفغانستان البعيدة عن الجنوب الذي يمثل المعقل الرئيسي لحركة "طالبان" ومكان نشاطها الأساسي، وهي منطقة تسكنها عرقية الطاجيك الذين حاربوا "طالبان" في التسعينيات وما كانوا ليقتلوا موظفي إغاثة جاءوا لقراهم لتقديم المساعدة الطبية، لكن "طالبان" تمكنت وإن مؤخراً من اختراق المنطقة والتواجد فيها، فما الذي حدث بالضبط في "بادخشان"؟ وما الدافع وراء قتل مدنيين عزل كانوا فقط يسعون إلي المساعدة؟ مع أن التفاصيل يلفها الكثير من الغموض، إلا أن "مايكل سيمبل"، الممثل السابق للاتحاد الأوروبي في كابول وأحد المتخصصين البارعين في الشأن الأفغاني يقدم طرحاً أكثر مصداقية في صحيفة "فاينانشيال تايمز"، إذ يقول "ربما أفضل طريق لقراءة قتل فريق الأطباء تتمثل في كونه نتيجة طبيعية للانهيار الاجتماعي الذي حصل جراء فشل نظامين يتنافسان للسيطرة علي أفغانستان"، فمن جهة فشلت الحكومة الأفغانية في كابول التي يدعمها حلف شمال الأطلسي في توفير حد أدني من الأمن في بلد مزقه العنف لعقود طويلة، ومن جهة أخري عجزت "طالبان" عن إحكام سيطرتها علي جميع مناطق البلاد لملء هذا الفراغ، لا سيما في المناطق التي لا تسكنها غالبية بشتونية والتي تمثل 60 في المائة من إجمالي مساحة البلاد. لذا وفي محاولة لبسط سيطرتهم علي مناطق خارج دائرة نفوذهم الاعتيادية، لجأ قادة "طالبان" إلي التشدد في ممارسة العنف ضد المدنيين لترويع السكان وإخضاعهم بالقوة لسلطة "طالبان"، وهو ما يؤكده تقرير الأممالمتحدة الصادر يوم الثلاثاء قبل الماضي الذي يقر بأن المتمردين وليس قوات حلف شمال الأطلسي هي المسئولة عن 76 في المئة من القتلي المدنيين الذين سقطوا في أفغانستان خلال النصف الأول من العام 2010، هذا في الوقت الذي أكدت فيه لجنة حقوق الإنسان في أفغانستان مسئولية "طالبان" عن 68 في المئة من 1325 قتيلاً الذين تم تسجيلهم في السبعة أشهر الأولي للعام 2010. وفي ظل هذه الفوضي، يمكن حدوث أي شيء بما في ذلك قتل فريق طبي جاء لتقديم المساعدة للأفغان، حتي وإن كان يختلف تماماً مع تقاليد الضيافة المعروفة لدي الشعب الأفغاني، بالإضافة إلي ذلك يلفت "سيمبل" النظر إلي أمر آخر مهم يتمثل في قرب موقع "بادخشان" من المنطقة الحدودية مع باكستان التي ينشط فيها المتمردون، وهو ما يقودنا إلي الدرس المهم المستفاد من هذه المأساة، فبادعائها المسئولية انتهكت "طالبان" التقاليد الأفغانية الراسخة، كما أن أغلبية الشعب الأفغاني لا تريد حكماً من هذا النوع يقتل الأجانب حتي ولو جاؤوا مسالمين للمساعدة، وإذا كانت "طالبان" قد حققت نجاحاً فذلك ليس لإنها محط تقدير من قبل الأفغان، بل لأن حكومة كابول فشلت في توفير الأمن ولأن عناصر الحركة وجدوا في باكستان ملاذا آمناً، ولو فقط غيرنا هذه المعادلة لانهارت "طالبان". كاتبة ومحللة سياسية أمريكية عن "الاتحاد"