وقد وصف وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو الحادث بأنه "عملية قتل نفذتها دولة"، كما تزعمت تركيا المساعي في مجلس الأمن الدولي لإصدار إدانة قاسية بحق إسرائيل. ربما كانت أحداث الاثنين دعوة من أجل صحوة مؤسسة السياسة الخارجية الأمريكية، خاصة أن طبقة من المسئولين الأمريكيين كانت تحن للعودة إلي فترة قصيرة من التاريخ عندما كانت المصالح الأمريكية والتركية الأمنية متطابقة بسبب التهديد المشترك الذي كان يمثله الاتحاد السوفياتي لهما، بيد أن العودة إلي الأيام السعيدة من العلاقات التركية الأمريكية أمر بات متعذرا بشكل متزايد. وتأتي هذه الوقائع المستجدة معاكسة لآمال الرئيس باراك أوباما الذي قوبل تنصيبه بالاستحسان وراهن مسئولو البلدين علي أن تؤدي مقاربة إدارته الدولية التي تشدد علي الحوار الدبلوماسي والتعددية والاستقرار الإقليمي إلي قبولها من جانب حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم. وقد أوضح البيت الأبيض منذ البداية أن تركيا تعتبر لها الأولوية بالنسبة لأوباما الذي أطلق مصطلح الشراكة النموذجية بين البلدين، إذ إن تركيا تتمتع بمجموعة من المساهمات والإمكانيات التي يمكنها مساعدة الولاياتالمتحدة علي تحقيق مصالحها في الشرق الأوسط وآسيا الوسطي والقوقاز. ومن الطبيعي الاعتقاد بأن تركيا تتقاسم المصالح مع الولاياتالمتحدة في تلك المناطق لكونها حليفا لأمريكا منذ زمن طويل، وهذه كانت فكرة علي أية حال. هذه هي الأمور من الناحية النظرية لكن عندما يتعلق الأمر بنظام الرئيس الأسد في سوريا تقف واشنطنوأنقرة علي طرفي نقيض. وقد التزم الأتراك جانب الهدوء بخصوص المزاعم والاتهامات الأمريكية والإسرائيلية التي تقول بأن سوريا إما أن تكون قد نقلت صواريخ سكود إلي حزب الله أو أنها دربت مقاتليه علي استخدامها داخل سوريا، فما الذي سيفعله الأتراك إن شنت إسرائيل هجوما استباقيا لضرب تلك الصواريخ التي يعتقد أنها حاليا في الجانب السوري من الحدود بالقرب من وادي البقاع، أو إذا قام الجيش الإسرائيلي بنقل المعركة إلي داخل الأراضي اللبنانية حيث يوجد 367 جنديا تركيا يخدمون في قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في جنوب لبنان؟ أيا كان السيناريو بالضبط، فإن الحرب علي حدود إسرائيل الشمالية مرجحة بشكل متزايد، وفي هذه الحالة فإن أمريكا ستؤيد حق إسرائيل في الدفاع عن النفس علي خلاف تركيا. ربما كانت إيران هي القضية الأكبر التي تفرق بين واشنطنوأنقرة، فهناك جدل كبير يختمر حول ما قالته إدارة أوباما لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان والرئيس البرازيلي لولا داسيلفا قبل أن يشد الزعيمان الرحال إلي طهران في مايو الماضي، حين تمكن الزعيمان من إبرام صفقة يتم بموجبها نقل 1200 كيلوغرام من اليورانيوم الإيراني المنخفض التخصيب إلي تركيا لمبادلته بوقود نووي لمفاعل البحث العلمي في طهران. وعلي الرغم من أخطاء إدارة أوباما، فإن الصفقة التركية البرازيلية تظهر مقدار الفجوة بين واشنطنوأنقرة بشأن إيران، لأن إدارة أوباما تنظر إلي الصفقة بخصوص مفاعل الأبحاث في طهران علي أنها محاولة إيرانية لحرمان واشنطن من حلفائها الأوروبيين والصينيين والروس لتحبط بذلك جولة جديدة من العقوبات بتفويض من الأممالمتحدة في الوقت الذي يستمر الإيرانيون في تخصيب اليورانيوم. أما الأتراك فيرون في الصفقة بداية واعدة للمهمة الصعبة الهادفة إلي دفع واشنطنوطهران إلي مفاوضات علي نطاق أوسع. قد يكون من السهل الوقوع في مغريات توجيه اللوم إلي الأسلمة الزاحفة في التحول الطارئ علي السياسة الخارجية التركية، فمن غير الممكن إنكار وجود عنصر عقائدي أو أيديولوجي في خطاب أردوغان خاصة عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. ومع ذلك فإن رئيس الوزراء ليس هو مهندس السياسة الخارجية التركية بل وزير الخارجية أحمد داود أوغلو هو المسئول عن النشاط الدولي التركي الجديد، وهو شخص لبق الحديث وقارئ مثقف وليس إسلاميا لكنه أدرك _بشكل صحيح- أن تركيا قادرة علي لعب دور في عالم متغير، وهو يري بشكل صحيح الدور الذي يمكن أن تلعبه تركيا في عالم شديد التغير. فالتغييرات البنيوية التي نشأت بانتهاء الحرب الباردة، ومواصلة أوروبا رفضها لانضمام تركيا تضاف إليها الفرص الاقتصادية في الجوار التركي جنوبا وشرقا وشمالا، هي ما يقف وراء تحرك تفكير أوغلو وليس القرآن. علاوة علي ذلك وعلي الرغم من المعركة السياسية المريرة التي تدور رحاها في تركيا حول مسار البلاد السياسي، هناك اتفاق عام في أوساط الطيف السياسي التركي علي اتجاه السياسة الخارجية التركية. لو كانت في تركيا حكومة أخري، لالتزمت علي الأرجح جانب الحذر فيما يخص اتفاق مفاعل طهران للبحث العلمي، لكنها وبكل تأكيد كانت ستسعي لإقامة علاقات جيدة مع كل من إيران والعراق وسوريا إن لم نذكر روسيا. ومن هذا المنطلق، لا يزال يتعين علي إدارة أوباما أن تعمل جاهدة علي فهم ومعرفة ما أثرت به التغيرات البنيوية في النظام الدولي علي العلاقات التركية الأمريكية، فكل الحديث عن التعاون الاستراتيجي والشراكة النموذجية والأهمية الاستراتيجية لا يمكنه حجب التغيير الأساسي الذي حصل. فالحقيقة الصارخة تقول بأن تركيا والولاياتالمتحدة رغم أنهما ليستا أعداء في الشرق الأوسط فإنهما تتجهان بسرعة إلي التنافس. ففي الوقت الذي تسعي فيه أمريكا للاحتفاظ بدور القوة المهيمنة في المنطقة والحفاظ علي نظام سياسي يمكنها من تحقيق أهدافها بشكل أسهل، تري تركيا الأمور بشكل مختلف لأن الأتراك يريدون تطويع وتشكيل القوانين الإقليمية من أجل الحفاظ علي مصالح أنقرة، فإن أدت السياسات هذه إلي خدمة الأهداف الأمريكية فلا ضير في ذلك، وإلا فليكن ما يكون. وفوق ذلك كله، لقيت المقاربة التركية شعبية كبيرة في تركيا وفي الشارع العربي، الأمر الذي يفسر الرغبة الشديدة لدي أردوغان في مناقشة دور تركيا المؤثر في الشرق الأوسط، حتي في المناسبات واللقاءات العادية بدءا من إسطنبول وانتهاء بالحدود الأرمنية. ومرد ذلك إلي أن أردوغان وحزبه يعتقدان بإمكانية الاستفادة محليا من الوضع حيث بدأ نجم تركيا يسطع في الشرق الأوسط، لكن ما يزعج واشنطن هو أن متطلبات السياسة الداخلية التركية في الوقت الحالي تتفوق علي حاجة أنقرة للحفاظ علي علاقات جيدة مع الولاياتالمتحدة. ختاما، وعلي ضوء الأساطير التي تحيط بهذه العلاقة، بات جليا أنه من الصعب القبول بالتباعد بين واشنطنوأنقرة. وعندما يدرك صناع السياسة ما يجري حقا تستطيع واشنطنوأنقرة العمل علي السيطرة علي تدهور العلاقات بينها بأقل الأضرار، ويجب أن يكون هدف أوباما هو تطوير العلاقة مع تركيا كما فعل مع كل من البرازيل وتايلند وماليزيا، وإن كانت دون مستوي التحالف الاستراتيجي. قد يكون مصطلح "العدو الصديق" وصفا شديد القسوة للعلاقة التركية الأمريكية، لكن من المؤكد أن وصفها ب"الشراكة النموذجية" يعتبر أيضا مبالغة كبيرة، فقد حان الوقت للاعتراف بالحقيقة. ستيفن كوك عن "فورين بوليسي"