أول مرة أسمع استخداما لهذا المصطلح " السيستم "، الذي أعتذر مقدما عن استخدامه، حيث الحروف العربية تعبير عن مصطلح أجنبي، كانت في أول السبعينيات، حيث ذهبت مع أستاذي الراحل محمد الهادي عفيفي إلي أحد مكاتب شركات الطيران الأجنبية لسفر يتعلق به هو، فإذا بي أري الكثير من الهمة والسرعة والدقة والاهتمام بالعميل،والاختفاء التام لمنظر موظف يقرأ جريدة أو يشرب شايا أو يأكل، وهي الأمور التي كانت مألوفة لدينا خبرة بالعمل الحكومي المصري، إذ لاحظت أن كل الموظفين في الشركة مصريون، فتساءلت مندهشا عم جعل الأمر هنا مختلفا تماما عما تعودنا، فإذا بأستاذي يقول : إنه " السيستم " ! وراح الرجل يشرح لي معني ذلك . منذ ذلك الوقت وعيت جيدا كيف أن " النظام " ذا القواعد الموضوعية العلمية العادلة، الصارم في الثواب والعقاب، المستغل لكل دقيقة من وقت العمل، الذي يعتبر " العميل " علي حق،والذي يدفع بالمواهب إلي أمام وإلي أعلي،والذي يتسم بالدقة والشفافية، ويقوم علي العدل ...وغير هذا وذاك مما يجري المجري نفسه، إنما هو نظام لابد أن يكون ناجحا إلي حد كبير، ولابد أن يفرز " كفاءات " و " قيادات "، ويثري الخبرات،ويفجر الطاقات،ويزرع الرضا بين الجميع . ومن هنا فعندما أُبعد الصحفي الشهير محمد حسنين هيكل عن الأهرام عام 1974، إثر خلافه مع السادات،سمعت البعض يقول إن الأهرام سوف يتراجع كأقوي جريدة ومؤسسة صحفية في الشرق الأوسط، علي أساس تصور أنه كان يقوم علي " شخص " هيكل "، ووفقا لموروثنا الثقافي الذي يري الأمور دائما ترتبط " بالشخص "،وكنت قد اقتربت بدرجة ما من صورة العمل بداخل هذه المؤسسة عن طريق الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري، الذي كان يتعاون مع مركز الدراسات الاستراتيجية، ضمن وحدة تختص بالدراسات الخاصة بالصهيونية،وبناء علي معرفتي يومئذ ببعض ما يجري في هذه المؤسسة، علي الرغم من محدوديتها، كنت أجيب علي من أسمع منه توقعا بانهيار الأهرام بأن هذا لن يحدث، لأن الرجل (هيكل)، اتفقنا معه أو اختلفنا، كان قد وضع المؤسسة كلها علي أدق ما يمكن أن تكون عليه المؤسسة الصحفية،ومن ثم فإن من يجئ بعده سيجد نفسه مضطرا إلي أن يجري مجراه كحد أدني، بل ويمكن أن يدفعه إلي مزيد من التطور والترقي،وهو ما حدث بالفعل، مهما تغير رؤساؤه وتعاقبوا عليه، حتي الآن . كذلك أذكر أحاديث كثيرة ومتعددة سمعتها طوال فترة اقترابي الشديد من الراحل العظيم الدكتور سليمان حزين منذ أواخر الثمانينيات في المجالس القومية المتخصصة، حيث كان مغرما بالحديث المطول عن الظروف التي أحاطت بعملية تأسيس جامعة أسيوط، التي كان مكلفا بها منذ عام 1957، من قبل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وكأنه حديث عاشق ولهان عن محبوبة عمره. حكي لنا الدكتور حزين الكثير عن حرصه في رسالة وجهها إلي الزعيم الكبير،ومنشورة في كتاب حزين ( شجرة الجامعة ) الذي طبعته جامعة القاهرة،علي ألا تعمل الجامعة إلا بعد أن توضع بعض الأسس الضرورية اللازمة لقيام جامعة محترمة تستحق هذا الاسم حقيقة لا شكلا،وفعلا لا ادعاء، من حيث وضع تصميم هندسي شامل ودقيق لكل ما هو ضروري للمنشآت الجامعية بكلياتها ومعاملها وخدماتها ومستشفاها ومزرعتها ومكتباتها ومكاتبها وقاعاتها الدراسية،وتجميع كل وحداتها في " حرم " واحد،وبحيث لا تختلط مبانيها بحركة السوق والشارع وجمهور المواطنين،ومصادر الضوضاء المختلفة، فضلا عن إرسال بعثات تغذي كليات الجامعة بما هي بحاجة إليه من أعضاء هيئة التدريس، دون أن يقع المسئولون عن التأسيس والإنشاء أسري الرغبة في الاستعجال،ورغبة في التخلص من ملل الانتظار، فماذا كانت النتيجة ؟ أصبحت جامعة أسيوط أفضل جامعة مصرية،مهما تغير مديروها ورؤساؤها، لأن المؤسس وضع الأسس الراسخة،و القواعد الموضوعية، والشروط الواجب توافرها في الجامعة كما يجب أن تكون،وتكفي المقارنة بين عملية تأسيس هذه الجامعة،وكيفية تأسيس غيرها من الجامعات، حتي ندرك اتساع الهوة حقيقة . إنه " النظام "، أو " السيستم "، كما يشيع علي ألسنة الكثرة الغالبة من المتحدثين فيما يتعلق بهذه القضية .. تداعت إلي ذاكرتي كل هذه الأمور وأنا أقرأ بكل الحزن والأسي تصريحات رئيس الوزراء أحمد نظيف إلي رؤساء تحرير الصحف الحزبية والمستقلة،وهو يشير إلي ما يتصل برئاسة مصر في الفترة القادمة، فللرجل أن يظل علي رأيه بتفضيل سيادة الرئيس، حيث من حقه أيضا أن يسوق ما يشاء من المبررات، لكن أن يبرر تفضيله لسيادة الرئيس بأن "السيستم" لم يفرز لنا من يستحق أن يملأ هذا المكان، فهذا هو المؤسف حقا،والمحزن فعلا ..! لماذا ؟ لأن ذلك إعلان صريح بالفشل الذريع للنظام القائم نفسه، إذا كيف يمكن أن نتصور عقلا أن يملك نظام كل صغيرة وكبيرة في البلاد مدة ثلاثين عاما، ثم يفشل في أن يفرز " رجالا " و" قيادات " محترمة نطمئن إليها في قيادة البلاد ؟ في حديث مع بعض تلاميذي، كان الموضوع يتعلق بمدرسة المعلمين العليا التي كانت قائمة في مصر عقودا تقل عن أصابع اليد الواحدة، قبل إنشاء معهد التربية العالي للمعلمين عام 1929، وأشرت إلي وثيقة تاريخية أكثر من رائعة، ألا وهي الكتاب التذكاري للمدرسة بمناسبة مرور ربع قرن علي إنشائها، حيث أورد ثبتا كاملا لأبرز من تخرج منها، تقرؤه فتشعر بقدر غير قليل من الذهول، فالكثرة الغالبة من قيادات مصر الفكرية والعلمية والسياسية والأدبية طوال الثلاثينيات والأربعينيات، قد تخرجت من هذه المدرسة، فإذا قفزنا بسرعة إلي كليات التربية التي نشأت وفق نظامها الحديث عام 1970 وتكاثرت، ومن ثم فقد مر عليها أربعون عاما، وتسأل عمن أفرزته من قيادات في الأدب والسياسة والفكر والعلوم، فلا تجد إلا ما قد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة،ومن هنا كان من حقنا أن نحكم بصورة من صور الفشل لهذه الكليات . لا تقل لي إن وظيفتها هي تخريج " معلمين "، فقد كانت هذه هي نفسها وظيفة مدرسة المعلمين العليا، مع الوعي بأن المعلمين العليا كانت مدرسة واحدة، أما كليات التربية فهي بالعشرات ؟! وهكذا يمكن لك أن تحكم _ مثلا - علي حال " الفن " السابق الذي أفرز عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وليلي مراد وأنور وجدي ويوسف وهبي وأمينة رزق،وغيرهم مما يصعب عده، بكل الروائع التي أنتجوها، مما يصعب أيضا حتي مجرد الإشارة إليه،وحال " الفن " الآن الذي أفرز شعبان عبد الرحيم،وهذا الذي يغني " أنا مش خرونج، أنا كينج كونج، إيدي مربوطة، لكن بلعب بينج بونج "!! وارجع بذاكرتك إلي الوراء بعيدا، مع بعد الشقة، وتناقض المجال، إلي صدر الإسلام،وكيف كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يختار القيادات المبهرة للمهمات العسكرية والسياسية والدينية، حتي ممن كانوا صغار السن، فإذا بالخبرة والثقة والمناخ وهداية القيادة الرئيسية تفرز لنا مجموعة رجال، كانوا هم " الخميرة " التي شكلت زناد الحضارة الإسلامية التي فاضت علي الدنيا، عدة قرون علما وإنتاجا ونظما وخيرا وإحسانا، ما زلنا نقتات علي بعض آثارها كي نثبت أن لنا قيمة في هذه الحياة الدنيا !! لقد سبق لي أن كتبت مقالا بعنوان " تقزيم العمالقة "، به الكثير مما يفسر هذا التصريح المخزي لرئيس الوزراء، والذي أدان به _ من حيث لا يدري _ النظام الذي يعمل فيه، من موقع يلي موقع رئيس الدولة، حيث إن النظام نفسه يحرص أشد ما يكون الحرص علي " وأد " أي شخصية تبدو من ملامح خطواتها أنها يمكن أن يشار إليها بالبنان، أو تحظي بحب جماهير غفيرة،وخاصة في المجال السياسي،والعكس أيضا، حيث يحرص النظام علي الإبقاء علي من تبرهن الخبرة علي كراهية الناس لهم وإفسادهم في الأرض،ويكفي أن تستدعي إلي ذاكرتك بعض الرموز في السلطة التي مر علي بقائها سنوات طويلة، وما زالت في مكانها،وما هي عليه من سمعة تزكم الأنوف، وآخرين، لم يبق عليهم النظام رغم ما برهنوا به من علامات خير ! إنه النهج الفرعوني المستبد القاهر القائم علي المقولة القرآنية المعروفة "مأ أُريكم إلا ما أري"، فلابد ألا يكون هناك عظيم إلا واحد فقط،ولابد ألا يكون هناك " حكيم " إلا واحد فقط، وإذا حاول أحد أن يكون حكيما ورائعا، فلابد من إقصائه علي الفور وتغييبه في غيابات الجُب، لا ليتلقطه بعض السيارة وإنما حتي يذهب إلي الجحيم .. هذه هي مشكلة مصر ؟! والملفت للنظر حقا، أن عدوي هذا سرت في مختلف المواقع، حيث تجد النهج نفسه، والنتائج نفسها،وبالتالي المأساة نفسها !