برغم ما قد يثيره من جدل إستراتيجي وثقافي حامي الوطيس، قد لا يتسع بنا المجال في هذه السطور للخوض فيه، تعددت الرويات حول بداية ظهور وتداول مصطلح "القنبلة النووية الإسلامية". البدايات: فثمة رواية تذهب إلي القول بأن أول من أطلقه وروج له كان زعيم الحرب والسياسي الإسرائيلي السابق وطريح الفراش حاليا إريل شارون عندما كان وزيرا لدفاع الدولة العبرية خلال سني الثمانينيات من القرن الماضي، حيث عمد وقتئذ لتفزيع الهند والعالم الغربي من مخاطر المشروع النووي الباكستاني، الذي كانت تتبعه تل أبيب بحذر شديد وترصده بقلق بالغ، توطئة لحضهم علي إتخاذ التدابير اللازمة لتقويض ذلك المشروع وإجهاضه قدر المستطاع وإن تطلب الأمر توجيه ضربة عسكرية للمفاعل النووي الباكستاني، وذلك للحيلولة دون تمكن إسلام أباد من إنتاج القنبلة النووية، التي نعتها شارون حينئذ في أحاديثه وتصريحاته بمناسبات وأماكن شتي ب"الإسلامية".وفي ذات الإطار، ألمحت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية غير مرة عن مخاوفها من شبح ما يسمي"القنبلة النووية الإسلامية"، التي لم تعد حلما بعيد المنال في ظل مساعي إيران لإمتلاك السلاح النووي وتنامي المخاوف داخل إسرائيل من ازدياد احتمال تمكن دول أخري في الشرق الأوسط مثل مصر وسوريا والسعودية من الحصول علي تكنولوجيا نووية من مصادر دولية متاحة ككوريا الشمالية أو بمساعدة من العالم الباكستاني عبد القدير خان. وبدورها، نحت رواية أخري منحي آخر حينما أرجعت بداية ظهور هذا المصطلح إلي الرئيس الباكستاني الأسبق ذوالفقارعلي بوتو، مدعية أنه كان أول من استخدم مسمي "القنبلة الإسلامية" لنعت القنبلة النووية التي كان الباكستانيون يتطلعون بشغف لإمتلاكها من أجل تحقيق التوازن الإستراتيجي، عبر ما يسمي بتوازن الرعب النووي، مع الجانب الهندي، الذي كان له السبق في حيازة مثل هذا السلاح الفتاك في العام 1974 مفاقما بذلك الفارق في موازين القوة والتسلح مع باكستان.ويؤكد أنصار هذه الرواية أن بوتو لجأ إلي هذا المسمي لشحذ همم الباكستانيين وحشد الدعم الإسلامي الهائل من داخل باكستان وخارجها من أجل بلوغ تلك الغاية. وعلي مقربة من هذه الرواية، جاءت أخري تنسب المصطلح إلي قائد باكستاني آخر هو الرئيس ضياء الحق، الذي يؤكد أصحاب الرواية أنه كان الأكثر حرصا علي إضفاء صبغة إسلامية علي مشروع بلاده النووي مستندا علي عدة إعتبارات أهمها أن القنبلة النووية الباكستانية صنعت بأياد باكستانية إسلامية وعقول إسلامية وإرادة وتمويل إسلاميين، كما أن باكستان دولة إسلامية اكتسبت شرعية وجودها بالأساس من انتمائها الديني وكانت بذلك أول دولة في عالمنا المعاصر أضافت صفتها الإسلامية إلي اسمها الرسمي حين استقلت عن الإحتلال البريطاني وإنفصلت عن الهند في عام 1947.ويجنح البعض إلي الزعم بأن الرئيس ضياء الحق قد دفع حياته ثمنا لتوجهه هذا وإصراره علي ترديد مصطلح "القنبلة النووية الإسلامية" وحماسه الشديد لذلك المشروع إلي الحد الذي دفعه إلي متابعة العمل به بنفسه بشكل مستمر في الميدان، حيث تعرضت الطائرة التي كانت تقله في إحدي جولاته التفقدية للمنشآت النووية لعمل تخريبي أدي إلي تفجيرها ومقتل ضياء الحق ومن كان بصحبته أواخر ثمانينات القرن الماضي. وظهرت رواية تجعل لروسيا نصيبا في هذا الجدل، حيث عكف بعض الباحثين والخبراء الإستراتيجيين الروس مؤخرا علي مطالبة قيادات بلادهم بالتوقف عن دعم ومساندة البرنامج النووي الإيراني معتبرين أن بلادهم حينما تقدم التقنية النووية لإيران ترتكب حماقة كبري لأنها بمرور الوقت قد تساعد إيران علي إمتلاك القنبلة النووية، ومن ثم ستساهم بذلك في ظهور "قوة إسلامية نووية" علي تخوم روسيا الجنوبية، وعلي طول خطوط التماس مع منطقتين تعتبران الأكثر اشتعالا وتهديدا للأمن القومي الروسي وفيهما مشاريع تحت الأرض للحركات الإسلامية المناهضة لروسيا، في كل من القوقاز وآسيا الوسطي. وهناك رواية أخري تسلك مسلكا مغايرا في البحث عن نشأة مصطلح "القنبلة النووية الإسلامية"، إذ تعتبر أن تلك النشأة كانت غربية في الأصل، وتعود تحديدا إلي العام 1974 في أعقاب التفجير النووي الهندي الأول، حينما صدر في الولاياتالمتحدةالأمريكية كتابٌ تحت عنوان "القنبلة الإسلامية"، لمؤلفيه الأمريكيين ستيف وايزمان وهربرت كروزوني. وهو الكتاب الذي كان بمثابة محاولةٍ من جانب مؤلفيه لرصد القلق الباكستاني البالغ من التفجير النووي الهندي وما تمخض عنه من مساع باكستانية حثيثة ومستميتة لتدشين برنامج نووي يخول إسلام أباد إنتاج السلاح النووي. ومنذ ذلك التوقيت، صار مصطلح "القنبلة النووية الإسلامية" معتمدا من قبل أجهزة الإعلام الغربية التي دأبت علي تناول تطورات المشروع النووي الباكستاني سواء بالرأي أو التحليل. التجربة الإيرانية: وأيا ما كانت الرويات والبدايات الخاصة بالمصطلح المثير للجدل، فقد عاد هذه الأيام يطل برأسه ويشق الذاكرة مداعبا ألباب ومسامع الجميع مجددا مع جنوح نظام طهران لإضفاء مسحة دينية علي مشروع بلاده النووي من أجل كسر الحصار الدولي المضروب علي بلاده وتقليص التشكك الإقليمي المحيط بها بجريرة إصرارها علي المضي قدما في تطوير ذلك المشروع، حيث يحاول النظام الإيراني جاهدا ولكن من دون مساس بمصالح بلاده الإستراتيجية أو التضحية بطموحاتها النووية، تبديد شكوك الدول العربية والإسلامية حيال توجهات ونوايا الجمهورية الإسلامية خلال المرحلة المقبلة توطئة لاستمالتها أو علي الأقل تحييدها إزاء ما يمكن أن تتفق عليه الدول الغربية بشأن التعاطي مع طهران في مقبل الأيام علي خلفية إصرارها علي تحدي القوي الكبري عبر مباشرة عمليات تخصيب اليورانيوم محليا بنسب أعلي وتطوير قدراتها من الصواريخ الباليستية القادرة علي حمل رءوس نووية. وتوخيا لإيجاد مخارج لمشروعه النووي وإستجداء دعم العرب والمسلمين له أو علي الأقل تحييدهم إزائه، ومثلما نجح في تسييس الدين عبر توظيفه لغرض تقويض المعارضة السياسية الإيرانية في الداخل وتجريدها من الشرعية والتأييد الشعبي بعد أن إتهمها بالكفر وبث الفتنة والخروج علي ولي الأمر، حرص النظام الإيراني علي إستخدام الدين مجددا لحماية برنامج إيران النووي وتبديد أو علي الأقل تهدئة مخاوف العرب والمسلمين من تداعياته الخطيرة.فعشية إعطاء الرئيس نجاد أوامره المثيرة والمدوية لرئيس هيئة الطاقة الذرية الإيرانية قبل أيام قليلة مضت وإبان تدشين خطوط انتاج أول طائرتين إيرانيتين من دون طيار واللتين أُطلق عليهما اسما "رعد" و"نظير"، بالبدء فورا في تخصيب اليورانيوم محليا بنسبة 20%، أعلن وزير الدفاع الايراني الجنرال أحمد وحيدي أن جميع القدرات الدفاعية التي بحوزة إيران إلي جانب تلك التي تسعي جاهدة لتطويرها أو إبتكارها ستكون تحت تصرف دول المنطقة وستصبّ في مصلحة الأمة الإسلامية جمعاء. النموذج الباكستاني: ومن خلال إستراتيجيته الرامية لتوظيف الدين من أجل حشد تأييد الشعوب والدول الإسلامية لبرنامج بلاده النووي أو تحييدها علي الأقل إزاءه، يكون نظام طهران قد سار علي نفس خطي نظيره الباكستاني في هذا المضمار قبل عقد ونيف من الزمن.فلقد طفق ذلك الأخير يروج خلال المراحل الأولي من مشروع باكستان النووي وحتي إنتاج القنبلة، لإدعاء مفاده أن الدولة المسلمة السنية تسعي للحصول علي التكنولوجيا النووية مبتغية بها ليس فقط خدمة باكستان وإنما العالم الإسلامي بأسره. وفي العام 1981، أصدر العالم النووي الباكستاني عبد القدير خان، أبو القنبلة النووية الباكستانية، كتابا باللغة الإنجليزية أسماه "القنبلة النووية الإسلامية".وبعد أن فجرت باكستان انفجارا نوويا قويا ما بين 18 و21 سبتمبر من عام 1986، معلنة بذلك امتلاكها لليورانيوم المخصب بنسبة 93.5%، سعي الرئيس الباكستاني في حينها ضياء الحق لحشد التأييد الإسلامي لمشروع بلاده النووي وسط الحصار الدولي والتربص الهندي والإسرائيلي، فبعد أن أكد في إحدي مقابلاته مع وسائل الإعلام علي حق بلاده المشروع في الحصول علي التكنولوجيا النووية التي توصلت إليها، أعلن أن إسلام أباد ستسعي لإشراك الدول الإسلامية الأخري في الإستفادة من تلك التكنولوجيا. غير أن نظام إسلام أباد نحي نحوا مختلفا بعد أن أجري أهم وأخطر تفجيرات بلاده النووية في صيف العام 1998 معلنا إنضمامها رسميا للنادي النووي، حيث تباري كبار المسئولين الباكستانيين في تفنيد مساعي بعض المراقبين المسلمين المبتهجين والمتفائلين بالإنجاز الباكستاني المبهر لتثبيت الصبغة الإسلامية علي السلاح النووي الباكستاني، والتي سبق لزعماء باكستانيين سابقين إضفاءها علي مشروع بلادهم النووي. ومن ثم أخذ المسؤولون الباكستانيون هذه المرة يؤكدون علي أن قنبلتهم النووية الوليدة ليست "إسلامية" وإنما هي "باكستانية" تخدم الأمن القومي الباكستاني فقط، حيث فند وزير الدولة الباكستاني للشؤون الخارجية في حينها صديق خان كانجو نعت البعض للقنبلة النووية الباكستانية ب"الإسلامية" مؤكدا أنها ستكون قنبلة "باكستانية" فقط ولا يمكن تسميتها أو نعتها بأية مسميات أو نعوت أخري، لافتا إلي أنه لا دين لمثل هذه الأمور المادية. بل إنه ذهب إلي أبعد من ذلك حينما أبدي دهشته من نسب الأسلحة والقنابل النووية إلي دين بعينه وتساءل متهكما عما إذا كان هناك ما يسمي بالقنبلة النووية "اليهودية" أو تلك "المسيحية"، كما تساءل متعجبا عن مدي إمكانية تسمية الهند هي الأخري قنبلتها النووية ب"الهندوسية ". أوهام الأسلمة: وها هو نظام طهران اليوم يعاود السير علي ذات الدرب الذي سلكه سلفه الباكستاني عبر تبني إستراتيجية مشابهة خلال المراحل الأولي من البرنامج النووي، مدعيا أن ما يسعي إليه من إمتلاك للتكنولوجيا النووية سيكون لخدمة الإسلام والمسلمين ولا ينطوي علي أية نوايا إيرانية خفية لتحقيق أهداف إستراتيجية للجمهورية الإسلامية كالهيمنة علي المنطقة أو تشييع المسلمين السنة. وبشيء من المنطق في تحليل الإستراتيجية الإيرانية في إدارة البرنامج النووي الإيراني في ضوء التجربة الباكستانية، التي يتأسي بها النظام الإيراني هذه الأيام في إدارة أزمة برنامجه النووي، قد لا يكون من قبيل المبالغة أو التجني علي ذلك الأخير، التكهن بأنه حالة ما إذا ما نجح في إحداث تفجير نووي عالي المستوي بما يخوله الإنضمام للنادي النووي، لن يفعل خلاف ما فعل نظيره الباكستاني في العام 1998، بحيث لا يتورع عن نزع أية نعوت أو مسميات ذات طابع ديني إسلامي عن قنبلته النووية الوليدة بمقدورها أن تجعل منها "إسلامية" مؤكدا أنها إيرانية وربما.. "فارسية". وهنالك، ستتحول دفة القضية بعض الشيء في إتجاهات مغايرة، إذ ستكون القنبلة النووية الإيرانية قد إكتست مسحة قومية شوفينية تطوي بين ثناياها تداعيات سلبية مقلقة علي الأمن والإستقرار كما توازن القوي في المنطقة، ليس فقط بين إيران وإسرائيل وإنما بين إيران وجاراتها من البلدان العربية والإسلامية، لاسيما السنية منها، والتي تعتبر دوائر أمنية فيها المشروع النووي الإيراني وسيلة مهمة لابتزاز الدول الخليجية بل والهيمنة عليها أو علي الأقل تدعيم النزعات الانفصالية لمناطق التركز الشيعي فيها.