جدل "صحي" يدور حاليا حول قضية مهمة وحساسة، وهو الحق في العلاج علي نفقة الدولة، ولاسيما بعد أن أعلن د. حاتم الجبلي وزير الصحة مؤخرا أمام لجنة الصحة بمجلس الشعب أنه سيتم إلغاء نظام العلاج علي نفقة الدولة عند تطبيق قانون التأمين الصحي الجديد، بل وأعلن خدمة من الإجراءات لتنظيم قرارات العلاج علي نفقة الدولة بصفة مؤقتة لحين إصدار القانون الجديد للتأمين الصحي.. تضمنت تلك الإجراءات تحديد قيمة شهرية لكل نائب للحصول علي القرارات وهي خمسون ألف جنيه، وتشكيل لجنة وزارية للموافقة علي القرارات التي تزيد قيمتها علي خمسة آلاف جنيه، بالإضافة إلي تطبيق اللامركزية داخل المحافظات للحصول علي قرارات العلاج علي نفقة الدولة داخل المجالس الطبية بالمحافظات، وقد نجحت تلك القرارات في ضبط وتقليل قرارات العلاج والتي أصبحت خمسة ملايين جنيه كل يوم، ولاسيما بعد تدخل الجهاز المركزي للمحاسبات من وقف نزيف نفقات ذلك العلاج. المعارضون لقرار ترشيد أو إلغاء نظام العلاج علي نفقة الدولة استندوا علي العديد من الأسس القوية أهمها أن الحق في العلاج مكفول لكل مواطن خاصة غير القادر، ولابد من التوسع في نظام العلاج علي نفقة الدولة، ولاسيما في ظل الارتفاع الجنوني لأسعار الخدمات الصحية في مصر من فحوصات وأشعة وتحاليل وإجراء عمليات جراحية وأجور مستشفيات وأدوية خاصة بعد قلصت الدولة دعمها لمنظومة الصحة لدرجة أن المستشفيات تطلب من المرضي الفقراء توفير أكياس الدم والقطن والشاش وحتي المطهرات، وفي المقابل تكاد تقوم المستشفيات الخاصة بالحجز علي المريض أو علي جثمانه بعد ذلك إذا لم يسدد فاتورة الخدمات الصحية أو الفندقية طوال فترة علاجه، بعد أن تحولت بعض تلك المستشفيات في الوقت الحالي إلي مراكز تجارة بالآلام وملتقي للتربح من أوجاع المرضي، ووكر للتجارة بأعضاء الجسم، خاصة الكبد والكلي والقرنية هذا كله وسط نظام تأمين صحي هزيل، بل ومنظومة صحية كسيحة رفعت شعار "اللي معاه فلوس يتعالج ويعيش، أما المرضي الفقراء فعليهم البحث عن أقرب مقبرة إذا طالت فترة علاجهم". وبالتالي يجد من يعارض رفع الدولة يدها عن تحمل نفقات العلاج خاصة للمرضي الفقراء بأمراض مزمنة ولا يشتركون أحيانا في أنظمة صحية عامة أو خاصة أي لا تظلهم مظلة التأمين الصحي هو الحكم علي هؤلاء المرضي بالموت لأنهم غير قادرين علي تحمل نفقات حياتهم أو علاجهم، وبالتالي فالموت راحة لهم. وقد ذهب المعارضون إلي أبعد من ذلك عندما فسروا إلغاء نظام العلاج علي نفقة الدولة يتواكب مع خصخصة كل شيء في مصر حتي الخدمات الصحية بل هو تطور طبيعي لنظام "بيع" الأصول ومنهم المرضي غير القادرين، لأنهم أصبحوا فئة غير منتجة، وليس لهم ثمن. المؤيدون لإلغاء نظام العلاج علي نفقة الدولة ومنع إصدار قرارات حكومية لعلاج مرضي الأمراض المزمنة ومن يحتاج إلي عمليات جراحية حرجة سواء في داخل أو خارج مصر، يستندون إلي حجة وجيهة وهي أن قرارات العلاج تحولت في بعض الأحيان إلي تجارة مربحة، وهناك أموال تدفع "تحت الترابيزة" من أجل إصدار قرارات علاج إلي مرضي لا يستحقون، وإن تلك القرارات أصبحت أوراقا انتخابية في يد نواب مجلس الشعب، بل إن المستفيد الأكبر من تلك القرارات هم بعض المرضي القادرون والتي تعطي لهم مجاملة أحيانا كي يتفسحوا في الخارج بحجة العلاج، بل تصدر تلك القرارات لأصحاب النفوذ ومن له حيثية في المجتمع وأقارب وأصدقاء بعض المسئولين، بدليل علاج الدكتور يوسف بطرس غالي وزير المالية علي نفقة الدولة في مستشفيات أمريكا وفرنسا بتكاليف باهظة وصلت إلي حوالي مليون جنيه وهو إهدار للمال العام في الوقت الذي وصف فيه غالي نظام العلاج علي نفقة الدولة للمرضي الفقراء استنزاف لأموال الحكومة. والجدل حول العلاج علي نفقة الدولة هو جدل صحي لأن المؤيد والمعارض له يملك حججا قوية، ولكن علي الدولة أن تأخذ في اعتبارها الموازنة بين استمرارها في دورها بدعم الفقراء غير القادرين والتكفل بعلاجهم مهما طال في الداخل والخارج ومهما ارتفعت مصاريف العلاج. وفي نفس الوقت تمتنع بشكل كبير عن إصدار قرارات علاج للقادرين أو من يستطيع تحمل تكلفة العلاج إلا في حالات استثنائية بل وتكف عن عمل "كوتة" لأعضاء مجلس الشعب من تلك القرارات، فلا يعقل أن يستخرج 174 نائبا قرارات علاج بحوالي 27 مليون جنيه في الأسبوع الأول من فبراير، في الوقت الذي نجد فيه طوابير لمرضي القلب والأمراض المزمنة والحرجة من أجل انتظار دورهم في العلاج وإجراء عملية جراحية أو عمل غسيل كلوي. فالمطلوب عدالة ورشادة عندما تقوم الدولة بدورها في توفير الحق في العلاج للمواطن، وأن تكون الأولوية لها للمرضي الفقراء لأن تخلي الدولة عن دورها في هذا المجال هو في الحقيقة إلغاء لوجودها. وأتمني أن تظل مظلة قانون التأمين الصحي الجديد كل المرضي غير القادرين وتتحمل الدولة مصاريف علاجهم بالكامل حتي لا يضطر هؤلاء في النهاية إلي بيع أعضاء جسدهم أو يتحولون إلي قطع غيار بشرية.