لا يمر يوم واحد، أو لحظة واحدة، إلا ويشعر الإنسان بأهمية الفضاء الخارجي وتأثيره علي الحياة فوق كوكب الأرض. وعندما التف الشعب المصري حول أجهزة التليفزيون لمشاهدة مباراة كرة القدم بين مصر وغانا في نهائيات كأس الأمم الإفريقية كان الجميع علي يقين أن ملايين من الناس في العالم العربي وخارجه يتابعون فعاليات المباراة ونتيجتها في نفس "زمنها الحقيقي" والفضل في ذلك يرجع إلي تلك البنية الفضائية العملاقة التي بدونها لم يكن ممكنا بث الأخبار والمعلومات بشكل متزامن إلي كل ركن من أركان المعمورة. هذا الإنجاز البشري أخذ وقتا طويلا حتي أصبح حقيقة تجلت في بنية فضائية مُنتشرة في مدارات حول الأرض، ولو حدث لها انهيار لسبب أو لآخر لرجعت البشرية نصف قرن إلي الوراء علي الأقل. الاهتمام بهذه البنية الفضائية وحمايتها يتزايد مع الوقت كلما نمت وتعقدت، ويتصاعد معها الالتفات إلي ضرورة تأمينها وحمايتها ضد أية تهديدات يمكن أن تقوضها أو تعطل من تطورها المستمر. ولهذا السبب في ديسمبر 2009 أصدر معهد الأممالمتحدة لنزع السلاح في جينيف عددا خاصا من دوريته "منتدي نزع السلاح" Disarmament Forum عن "أمن الفضاء" Space Security والقواعد التي تحكم هذا المجال المختلف عن غيره في مكوناته وخصائصه والتهديدات والتحديات التي تواجهه وأثرها علي الأمن الإنساني. البداية كانت عندما أطلق الاتحاد السوفيتي السابق قمره الصناعي الأول "سبوتنيك" في 4 أكتوبر 1957 ولم يكن حجمه يزيد علي حجم كرة السلة وكل ما كان يفعله الدوران حول الأرض وإرسال إشارات واهنة مجرد "بيب..بيب" مُعلنا عن وجوده هناك. ومنذ ذلك التاريخ وحتي الآن أطلق الإنسان حوالي 7000 قمر صناعي يُوجد منها حاليا في مدارات مختلفة حول الأرض حوالي 900 قمر يقوم علي تشغيلها حوالي 40 دولة من دول العالم. ولو تصورنا أن هذه الأقمار قد اختفت فجأة من الوجود، أو أصابها مكروه، لأصيبت الحياة علي الأرض بحالة فوضي شاملة. فمعظم آليات التحكم في العمليات الحيوية علي الأرض من حركة وسيطرة وإنذار وتنبؤ وقرار صارت موجودة في الفضاء وليست علي سطح الأرض، وأصبح الإنسان مسئولا عن حمايتها من المخاطر التي يُمكن أن تتعرض لها، وكذلك تجديد بنيتها الأساسية بصورة دائمة. لقد دخلت الأرض القرن الواحد والعشرين وقد زاد مُحيطها "الحيوي" إلي مسافات أبعد من قُطرها "الهندسي"، ولم يقتصر ذلك علي وجود هذه الأقمار الكثيرة العدد في مدارت مُختلفة ولكن أضيف إليها الوجود البشري الدائم نفسه ومن أجناس مختلفة داخل المحطة الفضائية "الدولية" والتي وُضعت أول أجزاؤها في الفضاء في 1998 وسوف يكتمل بناؤها في 2010 وهي بداية مُشجعة لاستعمار الفضاء بالبشر. بطبيعة الحال كلما اتسعت البنية الفضائية كلما دار الحديث عن كيفية حمايتها ضد حزمة من المخاطر والتهديدات يجب التعامل معها علي المستوي الأحادي والدولي. هناك حقيقة أخري أن هذه البنية الفضائية تعكس واجهة تكنولوجية مُتقدمة للغاية وبدونها لم يكن ممكننا إنجاز ما تحقق حتي الآن في مسيرة استعمار الفضاء. باختصار مستويات السرعة، ودرجات الحرارة والبرودة، والدقة البالغة في تحديد المكان والزمن، وحجم المعلومات الهائل والضروري للسيطرة علي وقيادة تلك المنظومة الفضائية قد أنتج جيلا جديدا من التكنولوجيا سوف تقوم عليه أعظم طموحات الإنسان في استعمار كواكب أخري، أو بناء مستعمرات فضائية تدور حول الأرض، أو تسبح في الفضاء. هذا المستوي الرفيع من التكنولوجيا سوف يكون جاهزا للاستعمال في بناء أسلحة للدفاع عن البنية الفضائية ضد عدو أرضي أو فضائي، أو للهجوم عليها إذا تحولت إلي قاعدة عسكرية تهدد الحياة أو الدول علي سطح الأرض. وبرغم أن الوصول إلي الفضاء قد تحقق من خلال سباق تكنولوجي وعسكري بين الاتحاد السوفيتي والولاياتالمتحدةالأمريكية، إلا أن كثيرا من التعاون قد بزغ مع نهاية الحرب الباردة وجاءت معه فكرة المحطة الفضائية الدولية لترجمة هذا التعاون إلي شئ حقيقي يدور حول الأرض ويعيش علي متنه رواد من عدد كبير من العالم النامي والمتقدم. وقع الحمل الأكبر والتخطيط والإنفاق علي كاهل الولاياتالمتحدةالأمريكية ووكالة "ناسا" التي انضم إليها بعد ذلك في هذا المشروع أربع وكالات فضاء أخري تمثل 16 دولة. هذا الجهد لم يكن بعيدا عن الأممالمتحدة، لذلك سارعت إلي وضع مبادئ ومعاهدات وقوانين تحكم من خلالها العمل في الفضاء، والتأكد من أنه يخدم السلام والرخاء علي الأرض وليس الحرب. ومن أهم المبادئ الأساسية التي توصلت إليها الأممالمتحدة أن الفضاء يُعتبر ملكية جماعية لكل الجنس البشري، ولا ينطبق عليه مبادئ السيادة القومية المُطبقة علي الأرض. فوصول الولاياتالمتحدة إلي القمر ونزول أول رائد فضاء من عندها إلي سطحه، لا يعطيها الحق في استعمار القمر واعتباره ولاية أمريكية بخلاف ما حدث في حقبة الاكتشافات الجغرافية حيث وُضعت الأرض المُكتشفة تحت تاج الدولة الغازية وما نتج عن ذلك من حروب مازالت أثارها موجودة حتي الآن. ومن النتائج المُهمة لتجربة الوصول إلي الفضاء، حقيقة أن العملية ليست سهلة، وتحتاج إلي كم هائل من الطاقة، ولا تُقارن صواريخها الجبارة بالسفن الشراعية التي جابت البحار والمحيطات تبحث عن أرض جديدة. ولاشك أن بناء صاروخ للوصول إلي القمر قد يؤدي إلي أضرار واسعة لو انفجر بعد إطلاقه وسقطت أجزاء منه فوق مناطق سكنية، لذلك اهتمت الأممالمتحدة والجماعة الدولية بإقامة مؤسسات تكون مهمتها إجازة صواريخ الإطلاق، والتأكد من صلاحيتها، وتحديد مواعيد الإطلاق، وإبلاغ الدول القريبة لاتخاذ الإجراءات الضرورية اللازمة في حالة إجراء التجارب أو عند إطلاق صواريخ في رحلة تحمل روادا أو أجهزة إلي الفضاء أو إلي المحطات الفضائية القريبة. وبجانب إطلاق حرية استكشاف الفضاء للجميع، وضعت الأممالمتحدة قواعد لتحمل مسئولية الضرر إذا حدث من إطلاق مركبات إلي الفضاء، كما وضعت خططا للإنقاذ والإعلام وتسجيل الأنشطة وحل المنازعات الناتجة عن ذلك. وتعتبر معاهدة الفضاء الخارجي Outer Space Treaty الإطار القانوني الحاكم للأنشطة الفضائية وقد صدرت في 1967. وقد سبقها عدة معاهدات تحظر إجراء التجارب النووية في الغلاف الجوي للأرض. ثم جاء بعدها اتفاقية 1972 عن المسئولية الدولية في تحمل الأضرار الناتجة من الأجسام الفضائية، ثم اتفاقية 1975 لتسجيل المكونات التي يتم إطلاقها للفضاء الخارجي، واتفاقية 1979 التي تنظم أنشطة الدول المختلفة علي القمر والأجسام الفضائية الأخري، واتفاقية 1976 التي تحظر استخدام تكنولوجيا تغيير المناخ لأغراض عسكرية. وبالإضافة إلي ما سبق عملت الدول علي المستويين الثنائي والإقليمي وضع مسودات لمعاهدات مستقبلية لضبط الأنشطة الفضائية مثل المُسودة الصينية-الروسية لمنع نشر الأسلحة في الفضاء الخارجي، وكذلك حظر التهديد أو استخدام القوة ضد الأجسام والمكونات الموجودة في الفضاء. ويمكن القول إن التحديات الأمنية التي تواجه الفضاء الخارجي والإجراءات المضادة لهذه التحديات تقوم في الأساس علي مجموعة مبادئ وإجراءات لبناء الثقة في ميدان من الصعب إخفاء شئ فيه من ناحية، وقلة اليقين في أن الضرر لو حدث سوف يقتصر علي جهة بعينها من ناحية أخري. لذلك صار مقنعا أن مُجرد التوقيع والتصديق علي هذه المعاهدات لن يكون كافيا، بل لابد من وجود آليات فعالة للحظر والإجبار والتحقق. وتمثل عملية التحقق العمود الفقري لأي معاهدة للأمن الفضائي. والتحقق لابد أن يكون شاملا ومُؤثرا ودقيقا. فلا يجب الخلط بين الأهداف المدنية والأهداف العسكرية في الفضاء. كما يجب التعرف علي ماهية الأجزاء، وما الدور الذي تلعبه، وأسلوب التحكم فيها، والمدار الذي تتحرك فيه. وقد يتطلب الأمر وجود مجلس تنفيذي لكل مُعاهدة يقوم بتقديم تقارير إلي الأممالمتحدة ومجلس الأمن، وإعطاء المشورة في تقدير التزام الدولة من عدمه بالمعاهدة، والحكم علي طبيعة الجسم الفضائي وهل هو مدني أو عسكري بما يظهر من طبيعة تصميمه ومداره، وتحركاته في توقيتات معينة.