سألت نفسي كثيرا عن سر السلبية التي تخيم علي حياة المصريين داخل وطنهم؟ وتشككت أن يكون هذا الأمر " دعاية حكومية" .. لم أستطع حسم هذه المسألة في عقلي حتي ذهبت الي بريطانيا للعمل هناك كمدير لمكتب وكالة أنباء الشرق الأوسط من 2002 وحتي 2006 . وقد انفعلت- كمواطن مصري لا يعتبر نفسه سلبيا- بالحالة المزرية التي تعاني منها المسلة المصرية المقامة علي ضفاف نهر التيمز بعد أن كادت الكتابات المنقوشة عليها باللغة الهيروغليفية القديمة أن تزول بفعل الأمطار الحمضية وعوادم السيارات والتلوث والإهمال في صيانتها وترميمها منذ عشرات السنين . كتبت العديد من المقالات والتقارير الاخبارية عن الحالة المزرية للمسلة نشرت في الصحف المصرية والعربية والتقطت هيئة الإذاعة البريطانية ( بي بي سي ) الخيط ونقلت عما نشرته في وكالة أنباء الشرق الأوسط عن الحالة المتدهورة للمسلة المصرية ، وبدأت في تجميع التحركات والعمل مع اتحاد المصريين في المملكة المتحدة. تقدم الاتحاد بطلب إلي المجلس المحلي للعاصمة لندن طالب فيه بضرورة التحرك العاجل لإنقاذ هذا الأثر التاريخي المهم ، ووافق المجلس المحلي في وستمنستر علي تكليف اتحاد المصريين بتشكيل لجنة لتقديم تقرير عن حالة المسلة والاقتراحات المطلوبة لصيانتها . كما بدأت في الوقت ذاته تحركات في الأوساط الأكاديمية البريطانية والمتخصصين في علم المصريات في بريطانيا لتدشين حملة عالمية لإنقاذ هذا الأثر المهم المحروم من الصيانة والترميم منذ عشرات السنين. وقال الدكتور عكاشة الدالي خبير الآثار المصرية بمتحف بيتري التعليمي في لندن انه قام بإرسال مئات الرسائل الالكترونية للمتخصصين في علم المصريات في شتي أنحاء العالم لحثهم علي التضامن مع حملة قام اتحاد المصريين في المملكة المتحدة بشنها علي شبكة الانترنت تستهدف إنقاذ المسلة . ومن الغريب أن الكثيرين لا يعرفون معلومات كافية عن تلك المسلة الشامخة علي الضفة اليمني لنهر التيمز وهي مصنوعة من الجرانيت الأحمر ويقدر وزنها بنحو 187 طنا ويبلغ ارتفاعها حوالي 21 مترا ( بالتحديد 20 مترا و87 سنتيمترا) وهي واحدة من مسلتين اقامهما تحتمس الثالث أمام معبد عين شمس عام 1480 قبل الميلاد . ومن المثير أن يطلق علي مسلتي لندنونيويورك اسم ( مسلات كليوباترا ) علي الرغم من أنهما أقيمتا في مدخل معبد قيصرون بالإسكندرية بعد 20 عاما من وفاة كليوباترا، وترجح بعض الروايات ان كليوباترا أمرت بجلبهما من عين شمس إلي الإسكندرية لسبب ما غير أنها لم تتمكن من تشييدهما لظروف غير معروفة حتي الآن . وتؤكد وثائق المتحف البريطاني ان المسلة الحالية في لندن سقطت نتيجة لزلزال قوي ضرب الإسكندرية عام 1301 قبل الميلاد بينما ظلت الثانية شامخة في مكانها في مدخل معبد تحتمس الثالث في عين شمس شرق القاهرة حتي تم نزعها ونقلها إلي نيويورك. ويقول الدكتور لبيب الحبشي أستاذ الآثار المصرية القديمة في كتابه ( مسلات مصر- ناطحات السحاب في الماضي ) إن المسلات من أشهر الآثار التي خلفها الأجداد الفراعنة مثل الأهرامات والمعابد والمقابر وقد شيدت المسلات للإشارة إلي إصبع العقيدة الذي يشير إلي عرش الإله في السماء وذلك تعبيرا عن وحدانية الخالق. وتشير الوثائق إلي أن محمد علي باشا قدم تلك المسلة كهدية إلي ( الأمة الإنجليزية ) عام 1805 ولكن البريطانيين لم يتمكنوا من نقلها من الإسكندرية لفترة طويلة بلغت نحو 75 عاما ظلت خلالها ملقاة في أرض مملوكة لأحد اليونانيين المقيمين في مصر حتي جاء عام 1877 عندما قرر السير إيراسموس ولسون تجديد المحاولة والتقي بالخديوي إسماعيل الذي رحب بالفكرة بل وعرض المساعدة في نقلها لبريطانيا !! وقصة نقل المسلة إلي بريطانيا من القصص العجيبة والغريبة التي تختلط فيها الحقيقة بالأسطورة والخرافات .. ولعنة الفراعنة !! فقد غرقت المسلة جنوب أسبانيا وعندما أرسلوا بحارة لانتشالها غرقوا أيضا مع الزورق حتي قامت سفن الأسطول البريطاني بالعثور عليها طافية وقطرها لبريطانيا. كان حدث فقدان المسلة والعثور عليها وغرق البحارة حديث الصحافة البريطانية التي أرجعته آنذاك إلي (لعنة الفراعنة) كما نسبت نجاة كليوباترا إلي (عين حورس) المنقوشة علي المسلة. وأقيمت المسلة في موقعها الحالي علي شاطيء نهر التيمز بعد أن استغرق نقلها وإقامتها في مكانها اثني عشر شهرا واحتفل بتدشينها يوم 15 سبتمبر عام 1877. وبعد الحالة المزرية للمسلة في الوقت الحالي وتغطية الطحالب الخضراء للجزء العلوي منها وبداية اختفاء الحروف الهيروغليفية المنقوشة عليها وتعرضها للتلوث الناجم عن عوادم السيارات .. يتساءل البعض : هل تكفي عين حورس التي حمتها من الغرق والتلف لحمايتها هذه المرة من عوامل التعرية والزمن وعقود طويلة من الإهمال ؟!!! وهل سلبية المصريين في الداخل تنتقل معهم الي الخارج رغم أنهم يعيشون في ظل نظم يعتقدون أنها أفضل من نظيرتها المصرية ؟!! لقد بدأت حملة قوية وجيدة عام 2005 لانقاذ المسلة واستمرت الحملة لعدة أشهر وكان من المفترض ان تكتمل هذه الأيام بنقل المسلة الي حديقة " هايد بارك " ضمن احتفالات ضخمة استعدادا لأولمبياد 2012 ..فماذا تم وماذا يمكن ان يفعل الدكتور زاهي حواس في هذا الأمر؟!!