قد أكون متأخرا في الكتابة عن المفكر والكاتب والباحث والناشط الحقوقي الدكتور محمد السيد سعيد، وذلك لأسباب شتي لعل أهمها أنني آثرت أن أقرأ وأستمع لكل ما يكتب أو يروي عنه أولا، خصوصا بعد أن تراءي لي أن الراحل العظيم كان له مع غيري من المآثر الإنسانية والعلمية والأيادي البيضاء الفكرية والروحية ما لا يقل عن تلك التي جمعتني به، الم تفقها في أحيان كثيرة. ولعلي كنت أقف حائرا من جانب آخر أحاول جاهدا أن أتخلص من هول صدمة الفراق وافتقاد رجل بوزن محمد السيد سعيد، يعني الكثير بالنسبة لأبناء جيلي وأجيال أخري عديدة، وأتحسس الكلمات التي يمكن أن تطاوعني وتعبر عما يعتمل بداخلي من مشاعر وأحاسيس تتقاتل فيما بينها كالموج المتلاطم في بحر لجي. وحينما قلت وداعا مبكرا في عنوان هذا المقال، فإني أعني شعوري منذ وقت مبكر بغروب شمس العالم الجليل محمد السيد سعيد. فقبل ما يربو علي العامين بقليل، إجتمعت وإياه في إفطار بشهر رمضان في أحد فنادق القاهرة، وما إن رأيته حتي توجهت إليه مسرعا أشق الصفوف وأعبر الطاولات التي تغص بعشرات البشر الذين يمثلون كافة أطياف المجتمع المصري وبدرجة ما العربي والغربي. وما إن رآني أعبر إليه، حتي هب واقفا مبتسما يمد يده بحرارة، وما كدت أصل إليه حتي فجعني ما حل به وإرتسمت معالمه علي وجهه الصبوح البشوش، الذي طالما كان ينبض بالبشر ويفوح بالتسامح والحب والإحترام والمساعدة لمن يعرف ومن لا يعرف. لم أتردد في أن أعانقه بحرارة وأسأله بلا تردد عن تلك التغييرات، فإذا به يرد ببساطته المعهودة وتواضعه الملفت، لا عليك إنها بعض انعكاسات الإرهاق الذهني والضغط العصبي.. كان المفكر الكبير يحاول كعادته أن يبدو قويا متماسكا مملوءا بالحيوية، فطفق يسألني عن أحوالي ويبدي رأيه في شيء قرأه لي مؤخرا. وبينما كنا نتحدث، فاجأنا مضيفونا بطلب مهذب لوقف الحوارات الجانبية التي دارت رحاها علي مائدة الإفطار ترقبا لبدء نقاش هاديء وخفيف عن حوار الحضارات في ظل العولمة .وبالطبع كان علي المفكر الكبير أن يدلي بدلوه نزولا علي رغبة المضيفين والضيوف في آن. وبينما هو يتكلم كان لكلامه وقع أليم في نفسي، ليس لما إعتدنا أن يتحفنا به من أفكار وطروحات عبقرية وبراقة، ولكن لما بدأ يتكشف لي عن الحالة الصحية التي آل إليها الفارس النبيل. وبمجرد إنتهائه من حديثه، رمق في مقلتي حزن وأسي من أجله ولم تفلح محاولاته في إخراجي من هذه الحالة بمطالبته إياي بالحديث والإدلاء بدلوي في الموضوع فباغته بالقول إن من الصعب علي مثلي أن يتحدث في أعقاب عملاق مثله. ثم عاجلته بالسؤال ماذا عن العلاج مما حل به؟ فقال إن كل شيء يسير علي ما يرام وكأنه يقول لي من المستحسن أن تغير هذا الموضوع. إنتهيت من تلك المناسبة الأخيرة التي جمعتنا في لقاء كان هو إلي الوداع أقرب، وعدت إلي منزلي مسكونا بالقلق علي هذا العالم الجليل، وصرت أسترجع مسيرة علاقتي به منذ أن التقيت به للمرة الأولي في عام 1994 بالقاعة رقم (5) في الدور الثاني بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية، تلك الكلية العريقة التي تخرج كلانا منها ولكن في تاريخين متباعدين. كانت ندوة لمناقشة التقرير الإستراتيجي العربي الذي يصدره سنويا مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجة. وكنت وقتها في السنة الثانية بقسم العلوم السياسية بالكلية العريقة، بهرني الرجل بعبقريته في التحليل وتواضعه في الحديث ودماثة خلقه وحيائه، فقررت التجاسر والاقتراب منه والتعرف عليه، وأثناء إحدي الإستراحات التي تتخلل الجلسات، فعلتها، فإذا به حنون متواضع يرحب بي كما لو كان يتحدث إلي شخصية ذات حيثية، سألته كيف السبيل كيما يكون طالب بحالتي مثل عالم بوزنك؟ فأجابني: وهل تري أن في مثلي ما يحض مثلك علي أن يقتدي به أو يكون مثله؟ قلت له: يكفي هذا العلم الغزير الممزوج بذاك التواضع الجم. ومضت السنون، وظل المفكر الإنسان يمثل رمزا وقدوة لجل أبناء جيلي سواء أولئك الذين اقتربوا منه أم من لم تتح لهم الفرصة لكنهم قرأوا له وسمعوا عنه. وجاء موقف آخر في العام 1999، حينما سعيت للحصول علي منحة دراسية للحصول علي الماجيستير في العلوم السياسية من بريطانيا، وقصدته من أجل خطاب توصية يرفق بأوراق اعتمادي، وبعد تردد قررت مفاتحته في الأمر، فإذا به مشغول للغاية ويمر بظروف نفسية غير مواتية بسبب أحداث سياسية عديدة كانت تمر بها البلاد، التي آل علي نفسه أن يتحمل كعادته وزر نهضتها وتقدمها وبلوغها مبلغا يليق بها من الديمقراطية الحقيقية، إنها محبوبته مصر، التي ظل مستقبلها يؤرقه حتي آخر رمق في حياته. غير أنه تقبل طلبي بترحاب مستأذنا إياي في منحه بضعة أيام، وبعد إنقضاء المدة، ذهبت إلي مكتبه فإذا بالسكرتيرة تعتذر لأنه مسافر خارج البلاد وكان يود أن يعطيك خطاب التوصية بنفسه، لكنه تركه معها. وما إن قرأت الخطاب حتي كادت الدموع تسيل من عيني، لقد قدم المفكر العظيم شهادة في لم أكن أحلم بها وبأسلوب لم أكن أتمناه، ما جعلني أقرر الإحتفاظ بهذا الخطاب كأحد الوثائق المهمة ما حييت. وجاء من بعد ذلك العام 2006 حاملا في طياته مفاجأة جديدة مع المفكر الإنسان، حيث تقدمت للحصول علي جائزة أفضل مقال سياسي بالمسابقة السنوية التي تنظمها نقابة الصحفيين المصريين، وكان عنوان المقالة"حتي لاتكون فتنة" كنت أعالج من خلالها قضية الإحتقان الطائفي في مصر وطرحت فكرة الديمقراطية والدولة المدنية كحل ملائم للحيلولة دون تفاقم هذا الأمر الذي يهدد مستقبل بلادنا، وكانت لجنة الجائزة في هذا الفرع مكونة من أربعة كتاب بارزين علي رأسهم الدكتور محمد السيد سعيد، الذي قرأ المقالة من بين مئات أخري وإختارها لتكون الفائزة منفردة، وما إن أعلنت النتيجة وقررت اللجنة بالإجماع منح الجائزة لمقالتي منفردة، حتي أخبرني المفكر الراحل بأنه لولم يحدث هذا لأصر هو علي أن تكون تلك المقالة هي الفائزة. وعديدة هي المواقف التي يمكن للمرء أن يذكرها عن الدكتور محمد السيد سعيد المفكر والكاتب والباحث القدير، الذي نجح بنفس القدر من الروعة في أن يكون إنسانا من الدرجة الأولي، قبل ذلك كله وبعده.