فاطمة الزهراء باحثة دكتوراه متميزة، وهبها الله رجاحة عقل تجعلها تلتقط بسرعة بواطن الأمور، كما وهبها من رهافة الحس ما يجعلها تألم لما يألم كثيرون... جاءت إلي منذ عدة شهور تروي مشاهد محزنة لعدد من أبنائنا في المدارس، جلست إليهم في ندوة دُعيت إليها في إحدي المدارس، فكأنها لم تزر مدرسة وإنما "بؤرة" تفوح منها روائح كريهة، لكنها في الوقت نفسه مؤلمة تنبئ بمستقبل مخيف ينتظر هذا البلد الذي سوف يتولي هؤلاء الأبناء أمر قيادته وإنتاجه وخدماته، إلا إذا تحقق ذلك الوصف الموروث لمصر "المحروسة"، فأرسل لها المولي عز وجل من عنده قوما أولي بأس شديد وقوة يقيلونها من عثرتها. قلت لها إنني لست مندهشا مما رأت وإن كنت مفجوعا... قالت: كيف لا تدهش وهذه المدارس مفروض أنها "مصانع" تقوم "بصناعة" بشر علي مستويات عالية من التربية والمعرفة؟ أو لسنا نحن في كليات التربية نكرس جهودنا عبر سنوات طويلة لنعد معلما يقوم بمثل هذه المهمة؟ قلت لها إن المدرسة ليست "صوبة" أو "غرفة عناية مركزة" تعيش فيها المدرسة في عزلة عما يجري حولها، إذ لابد أن يتنفس كل من وما فيها، الهواء الملوث نفسه الذي يتنفسه سائر المواطنين خارج المدرسة، وإذا كنت قد كتبت منذ أسبوعين عن كيف ينتج التعليم ثقافة مقهورين؟ فلنتجه هذه المرة إلي "مصنع" آخر هو أخطر من المدرسة والجامعة، فيها توضع البذور الأولي، وفيه يقضي الإنسان أكثر ساعات عمره متلقيا كافة ما فيه من مؤثرات. قالت، لابد أنك تقصد المنزل؟ قلت علي الفور: نعم، ولتكن الأسرة هي مناط حديثنا... انظري إلي أي شاب ممن تقذف بهم الجامعات إلي السوق سنويا، وقد ظنت جمهرتهم أنهم قد انتهوا من مرحلة التحصيل والإعداد ليشمروا عن سواعدهم ويمضون إلي سوق العمل، ينتجون ويكسبون ما يتيح لهم فرصة الاستقلال الاقتصادي، والذي يكون خطوة أولي نحو الاستقلال الاجتماعي، فيصبح الواحد منهم صاحب بيت وأسرة ويكون له أولاد، فماذا تجدين؟ الظاهرة الشائعة الآن هي ألا يجد الشاب (أو الشابة طبعا) هذا العمل الذي ظل سنوات يعد نفسه له وينتظره، ويقيم عليه كل ما سوف يضمه مستقبله. هذه البطالة نفسها تعد تربة مخيفة للكثير من الآفات الاجتماعية والجراح النفسية التي تفعل فعلها المحزن، فكأنها "سوس" ينخر في عظام الشخصية وعمدها الأساسية، فإذا بالشاب يحس بأنه واقع تحت قهر الجوع والخوف ونقص في الأموال، بل وعدم وجودها أصلا. ولنفرض جدلا أنه استطاع ولو بعد حين أن يجد ما يعمله، إلا أنه لن يجد بين يديه إلا هذه الجنيهات المحدودة التي يتسلمها، تكاد تكفيه هو بصفته الفردية، وكأنها "مصروف شخصي"! لكن ابننا هذا يريد أن يتزوج ..والزواج يحتاج إلي كذا وكذا وكذا مما هو معروف، وهو بهذه الجنيهات المحدودة يعجز كلية عن التحصل عليها، فها هنا ينجرف هذا وذاك من البنين والبنات إلي ما يشبع ما يصرخ في جوانبهم من طاقات جنسية في تلك الصورة التي شاعت بكثرة مخيفة منذ سنوات ألا وهي ما يسمي بالزواج العرفي، حيث يتحقق الإشباع الجنسي، دون تكلفة مالية، خاصة وأن الأطباء الآن أصبح الكثير منهم يملكون الحلول اللازمة للتغطية علي أي آثار سلبية جانبية نتيجة هذا الزواج السري. وهنا يجد الآباء والأمهات أنهم أخطأوا عندما تصوروا أن أبناءهم عندما سيتخرجون، سيعملون ويستقلون ويتزوجون وينجبون لهم البنين والحفدة، فيستريحون من جزء كبير من النفقات، ويسعدون بالحفدة، ذلك أنهم يجدون أنفسهم مكلفين بتحمل جميع المتطلبات المادية اللازمة لتزويج الأولاد. وهكذا يجد الآباء والأمهات أنفسهم في حاجة أشد إلي المزيد من الدخل حتي يوفروا لأولادهم الكبار ما يحتاجون. وبهذه المناسبة أذكر حديثا مؤلما، لكنه أثار شيئا من الابتسام، فقد أسرّ أحد الأصدقاء مرة أنه من جيل تعس حقا، فعندما تخرج وعمل منذ عدة عقود كان التقليد القديم سائرا ألا وهو أن يدفع الابن الذي تخرج وعمل، جزءا من راتبه ليعين به أبويه ويعوضهم عن سنوات التعب التي تكلفاها تربية له وتنشئة وتعليما، فلما جئنا للزمن الحالي وجد الصديق نفسه مطالبا أن يستمر في الإنفاق علي ابنه، حتي بعد أن يتخرج ويعمل لأن دخله لا يقدره أبدا علي استمرار الحد الأدني من الحياة الكريمة! وهكذا يجد الآباء والأمهات أنفسهم في حاجة إلي مضاعفة الجهد وبذل المزيد من العمل، فإذا بكليهما يمضيان معظم ساعات يومهما خارج المنزل، كدا وكدحا، وإذا بالأولاد لا يجدون أمامهم أبويهما، وإن وجدوهما، لم يجدوا أمامهم إلا عقلا مكدودا وجسدا منهكا، وصبرا نافذا ! لكن الأولاد لهم مشكلات، ولهم قضايا، إلي من يسرون بها؟ إلي من يتجهون ليرشدهم إلي سواء السبيل والصراط المستقيم؟ ما زلت أذكر عبارة كتبتها ابنة أرنيها أحد الزملاء الذين كانوا يعملون في إحدي الجامعات العربية خارج مصر، تستحلفه بالله أن يعود إلي مصر، فهي بحاجة إلي "أب" لا إلي "بنك"!! الأول يرسل حبا وحنانا ورعاية وتوجيها، والثاني هو الذي يرسل النقود، كثرت أو قلت.. لقد أوجعت الكلمة قلب الأب المسكين، وأوجعتني أنا أيضا، فعاد الرجل إلي مصر لتجد ابنته ما كان ينقصها بالفعل، مما لا يقدر بمال قارون.. الأب، الموجه، الراعي، المرشد ... لقد غاب الأبوان في مصر عن معظم البيوت، وأصبح الأبناء لا يجدون أمامهم إلا "الشارع"، بالنسبة للكثرة الغالبة من أبنائنا، حيث لا نوادي ولا مراكز اجتماعية، وحيث رفاق السوء. قالت فاطمة، إن ما شاهدته من حالات يكاد يقدم براهين حية علي ما تقول، فهل أقرأوك بعضا منها؟ قلت: هات ما عندك... قالت: هذه فتاة متفوقة ويشهد لها الزملاء والمدرسون والمدرسات بذلك، وتتألم كثيرا بسبب عدم اكتراث الأسرة وعدم تشجيعها لما أحرزته من نجاح، وذلك لانشغال الوالدين بالعمل خارج المنزل، وضغوط الحياة الأسرية ومطالبها... قالت لها الفتاة: لماذا أتفوق إذا لم أجد أي تشجيع؟ قلت: فهل من مزيد؟ قالت: وهذه فتاة أخري تجد تعويضا عن حنان الأسرة المفقود مع صبي في مثل عمرها أو يكبرها قليلا، تلتقي به خارج المدرسة بعد الانصراف، فتخلع ما كانت ترتديه من ملابس أنيقة كانت ترتديها تحت زي المدرسة، وتضع مساحيق التجميل وتتخلص من حجابها، وتتنزه مع صديقها وتعبث، وتعود إلي منزلها في الخامسة مساء، فلا تجد الأب أو الأم، حيث ما زالا في العمل، ويعودان مكدودين ليجلسا أمام شاشة التلفاز، ولا يدريان إلي ماذا صارت حالة ابنتيهما، وهي في الطريق إلي أن تضيع، لا يعوض ضياعها ما يكسبانه من أموال، مهما كثرت . وعندما سألت فاطمة التلميذات عن المذاكرة والتعليم، قالت أكثرهن إن "مذكرات الدروس الخصوصية" يكفي الإلمام بها في الشهر الأخير من "التيرم" أو العام، للدخول إلي الامتحانات حيث لا تخرج الأسئلة عما يرد في المذكرة، أما منذ بداية العام الدراسي حتي الشهر الأخير "فاحنا بنعيش حياتنا"!! فكان أن استفز هذا باحثتنا الواعدة، فسألتهن: كيف تعشن حياتكن؟ قلن بالإجماع علي وجه التقريب إنهن يحرصن علي ارتداء الملابس الأنيقة وخاصة "الجينز"، والذهاب إلي السينما، وإقامة حفلات أعياد الميلاد في أحد المنازل، والاجتماع يوما بعد يوم في أحد منازل إحدي الصديقات للضحك والفرفشة وتناول الطعام والرقص، وهذا في وجود الأب والأم، أو عدم وجودهما!! وسألت فاطمة التلميذات عما إذا كن يحضرن الحفل الختامي للمدرسة في نهاية العام فرددن: حفل مدرسة إيه؟ إحنا بنعمل "بروم"؟ ولم تكن باحثتنا تعرف ما هذا "البروم" المشار إليه، فسألتهن عنه، فقلن إنه يعني حفلة كبيرة في نهاية العام تضم جميع المدارس الأخري للغات، وكل فتاة تدفع 300 جنيه رسم اشتراك الحفل في أحد الفنادق، وفي هذا الحفل يجتمع صبيان وبنات من مدارس أخري، ويدعون أحد المطربين الجدد، وأشرن إلي أنهن سوف يدعون العام الحالي المغني "..." "لأن صوته جميل ومؤثر وعاطفي جدا، واحنا بنموت فيه"!! وتسأل فاطمة عن نوع الملابس التي يلبسنها في مثل هذا الحفل، فقالت لها طالبة: "أنا بفصل فستانا مكشوفا من الظهر والرقبة، وهو فوق الركبة بحاجة بسيطة، وهاعمل شعري عند الكوافير، وسأضع مكياج، و أركب عدسات لونها رمادي أو أخضر أحسن". ولما سألت: متي تبدأ الحفلة؟ قلن التاسعة مساء وتنتهي حتي الساعة الرابعة فجرا!! ثم تسأل: هل يذهب آباؤكن معكن؟ ضحكن سخرية، وقلن أنهم يوصلونهن بسيارتهم، وفي نهاية الحفل، يقوم الشباب المشاركون بتوصيل الفتيات إلي بيوتهن، حيث أن الآباء لا يستطيعون السهر حتي هذه الساعة المتأخرة "وعلشان نقدر ناخد راحتنا في الرقص والغناء.."!! للوهلة الأولي يتصور القارئ أن ها هنا ممارسة لحرية، فأين القهر؟ لكن الحقيقة أن الحرية الحقيقية هي ما نسميه "بالحرية المسئولة"، أما هذا العبث والتسيب فهو خضوع واستسلام لقهر "الرغبة"، وقهر الغفلة، واستبداد الظروف... إن شباب هذه الأمة يسير في طريق الضياع، وإن لم نتدارك الكارثة في بدايتها، فسوف يكون في هذا ضياعا لمستقبل هذه الأمة... ألا من مجيب؟!