حكمة شهيرة ، رسّخها فى الذاكرة البشرية مسئولو الصحة الجسمية عندما قالوا " الوقاية خير من العلاج " ، ومن قبل ، أرسى قاعدتها الاجتماعية ،الخالق جل شأنه عندما قال فى محكم تنزيله ( ادفع بالتى هى أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم ) ،كما رسخها ، تربويا ، الرسول الأعظم عندما قالوا " يسّروا ولا تُعَسروا ، وبشروا ولا تنفروا " . على العكس من ذلك ، ينهج وزير التربية والتعليم الدكتور أحمد زكى بدر ، كيف ؟ عندما جاء إلى رئاسة جامعة عين شمس بدا وكأنه لا يعتد كثيرا بمسألة التربية ولا بمسألة علم النفس ،وكأنه يحمل شعار " العصا لمن عصا " ، فكان أن ألغى برنامجا بدأ منذ أوائل السبعينيات لإعداد المعلم الجامعى ، حيث كان قانون الجامعات قد نص عليه ،وكان برنامج جامعة عين شمس بصفة خاصة نموذجا رائعا بالنسبة لكل الجامعات المصرية، لا نقول ذلك تعصبا لكونى أستاذ تربية بالجامعة نفسها ،وإنما لأفاجئ القارئ بأن قيادة البرنامج ومنهجه ، كان يقودهما رائدين عظيمين من أساتذة طب عين شمس هما الراحلين الدكتور عماد فضلى والدكتور محمد صادق صبور. ولا يتسع المجال الآن لبيان أوجه الجودة والعظمة فى هذا البرنامج ، فهى تحتاج إلى مقال مستقل ،إنما يكفى أن أشير إلى أنه كان يفرض وجود عضوى هيئة تدريس أحدهما تربوى والآخر من كلية أخرى . ومثلما يحدث فى مصر مع الأسف الشديد ، عندما يجئ رئيس جديد ليدير العمل ، فيبادر بإلغاء ما فعله سابقوه دون الاعتماد على دراسة تقويمية أولا لما هو قائم والكشف عن العيوب والمحاسن ،والعمل على تطويره وتعديله ، حيث أُلغى البرنامج ليحل محله برنامج آخر " تنمية قدرات أعضاء هيئة التدريس " ، الذى جلب – على عكس البرنامج الأول - مكافآت ضخمة للمشاركين ، حيث كان أحد بنود أجندة أجنبية . كذلك ، لم يعجبه ما عُرف باسم كليات التربية النوعية فعمل على تصفية ما فى جامعة عين شمس وضمه إلى كلية التربية ، والتى لا تتسع أصلا لنصف من هم فيها ، المهم أن تهتز الأرض ويعلو الصخب ،ويتحادث الناس عن الأمر . ومن عجائب الأمور فى مصر أن يجئ الدكتور بدر الذى الذى لا يشعر بتقدير لعلوم التربية والنفس وزيرا " للتربية "، وكأنها من " سقط المتاع " فيما يبدو أنه يرى ، وربما كانت وزارة أخرى أنسب له وأفضل ! وحملت أيامه الأولى فى الوزارة ما يشبه الإقالة لعدد غير قليل من المستشارين ، الذين ربما شعر البعض بالارتياح لذهابهم ، لكننا لم نعرف : لماذا ذهبوا ؟ وهل أُجرىت تحقيقات بهذه السرعة ، تكشف للوزير بناء عليها سوء حالهم ؟ فإذا كانوا قد أدينوا ، فلم لم يعاقبوا ،وتعلن نتيجة التحقيقات ؟ لم نملك إجابة مع الأسف الشديد .. ثم كانت هذه " الزلزلة " التى أحدثها بدر ، أمام كاميرات التلفزيون ،ومصورى الصحف ، (وإن افتقدنا مراقبين من الأمم المتخدة !! ) رآها ملايين الناس ، وهبت عاصفة من المناقشات بين مؤيد وبين متحفظ وآخرين معترضين .. مما يلفت الانتباه ، أن مدرسة الخلفاء الراشدين ، التى شهدت الواقعة ، إنما هى مثال لآلاف من المدارس ، لا نقول مثلها بل أسوأ منها ، فلماذا هى التى انفردت بالتشهير والعقاب على الشاشات التلفزيونية ؟ البعض يقول أننا بأشد الحاجة إلى " الانضباط " ، و" اضرب المربوط يخاف السايب " ،وأن هذا الإعلان المليونى سوف يكون رادعا لكل المتسيبين فى مدارس البلاد حتى يرتدوا إلى جادة الصواب .. لكن من الممكن الرد على ذلك بأن الانضباط إنما هو شكل ، لابد أن يحتوى على مضمون ،ولكى نوضح حديثنا ، فلنتذكر مكاتب موظفى الحكومة ، حيث لابد أن يحضروا الساعة كذا ، ولا يغادرون إلا فى الساعة كذا ، لكن هل هذا وحده هو المهم ؟ ...إنه مهم ، لكن الأهم هو ماذا يفعلون ؟ كم ونوع وحجم العمل الذى يقومون به ومستواه . هنا سوف تجد مائة سبب وسبب داخل المدارس الحكومية لا يدفع إلى جدية العمل ، أو كما نقول " على سنة الله ورسوله " ،ولو حاولنا أن نفسر ذلك ونشرحه لاحتجنا كتابا ،ويكفى أن نرجع إلى التقرير القنبلة الذى كان حصيلة جهد مئات من الباحثين بقيادة الراحل العظيم الدكتور فؤاد أبو حطب عن واقع آلاف من مدارس الدولة ،وكيف عرّى التقرير حقيقة الحال ،فكان الأمر الوزارى بحجبه عن النشر ..كان هذا فى منتصف التسعينيات ، فما بالنا بحال المدارس ، بعد خمس عشرة سنة ؟! كذلك فإن ما تلفظ به وزير " التربية " من ألفاظ ، واصفا المدرسة بأنها " زبالة " و " وسخة " فهل يعلم أن ثلاثة أرباع مدارس الدولة حالها مثل هذه المدرسة ؟ هل يتحمل وزيرنا الهمام نتيجة هذا بما همس به البعض أن الوزارة إذن ليست وزارة " تربية " بل هى وزارة "زبالة " ، وما رافق هذا الوصف من أوصاف أخرى جاءت على لسان الوزير نفسه ؟ إنها نتيجة منطقية لما تلفظ به ، ونحن نأبى عليه ذلك ولا نرضاه . هل هى – الشتم والسب - " حالة خاصة " أصبحت الدولة المصرية فى هذا العهد تتسم به ، خاصة إذا ربطنا هذا الوصف الذى نطق به وزير التربية بما سبق أن وصف به وزير الصحة مستشفى حميات العباسية ، وكما يتلفظ عدد من النواب " المحترمين " تحت قبة مجلس الشعب ، بل ووزراء آخرين ؟! بل لنذكر أيضا الإمام " الأكبر " الراحل – غفر الله له – وكيف سخر من طالبة صغيرة السن فى المرحلة الإعدادية كانت تغطى وجهها ، إذ لما رآه قال قولته المؤلمة التى نزلت علينا كما تنزل السكين "أمال لو كنتى حلوة كنتى عملتى إيه ؟ ونبهها إلى أنه يفهم فى أمر النقاب والحجاب " أحسن من اللى جابوكى " ؟!! ونعود لموضوعنا الأساسى :هل نتخذ القرار بالعقاب قبل التحقيق ، استنادا إلى مشاهد عيانية سريعة ، أم نؤجل العقاب حتى نحقق ؟ هنا ، لو كان هناك تحقيق عادل ، فكما يعاقب مدير المدرسة لأنه مسئول عن إدارة المدرسة ، فلِم نساير المنطق هنا ونقول بمعاقبة مدير إدارة التعليم التى تتبعها المدرسة ، باعتباره هو مسئول عن حال ما يقع فى دائرة مسئوليته ، ثم نتسلسل صعودا ، حتى نصل إلى الرؤوس الكبيرة المسئولة فى المحافظة والإدارة المركزية فى شارع الفلكى ؟ الغريب حقا أن عقاب الوزير تمثل فى نقل العاملين بالمدرسة إلى مدارس أخرى ! وهو أمر يجعل الإنسان بالفعل يضرب كفا بكف ، فما ذنب تلاميذ المدارس التى سوف تنكب باستقبال هؤلاء المعاقبين ؟ هل هذا حل يقبله عقل ؟ إن هذا مدير ، فإذا كان قد أساء الإدارة ، فكيف نسمح له أن يدير مدرسة أخرى ؟ وهذا مدرس ، ولم يقم بفريضة التدريس ، فكيف نسمح له أن ينكب تلاميذ آخرين بإهماله وسوء تدريسه ؟ وإذا ذهب المعاقبون إلى المدارس الجديدة ، فهل سيضافون إلى من يقومون بالعمل من قبل أم سوف يجئ بمثل هؤلاء إلى المدرسة المعاقبة ؟ هل فكر سيادة الوزير فى عائلات كل مدرس منقول التى استقرت فى سكن بعينه ، وأزمة السكن فى مصر أشهر من أن يشار إليها ؟ألم يكن من الممكن أن يجئ العقاب فى صورة خصم أو تأخير ترقية أو " غرامة " ...أو ..أو وماذا سوف تكون عليه " هيبة " المدرسين الذين تم تهزئتهم على الملأ ورآهم وسمع إهانتهم ملايين الناس ؟ هى تساؤلات ، إجاباتها معروفة ، وهى نتيجة طبيعية " لمَسْرَحَة " الموقف ،وإثارة الاهتمام والحديث بين الرأى العام ، وإظهار شجاعة ، لكنها شجاعة مزيفة ، إذ الشجاعة الحقيقية هى التى تتبدى فى أسلوب آخر ، أسلوب يقوم على التبشير لا التنفير ،والتيسير لا التعسير ،والبحث والدرس ! قد يقول البعض أن الدكتور بدر قد نشأ فى بيئة " أمنية " ، باعتبارها نجلا لوزير " داخلية " سابق ، لكننا لا نميل إلى هذا ، فهو نهج نظام حكم قائم ، يجنح إلى النظرة الأمنية فى كثير من القضايا الكبرى ، فإذا ظهرت مظاهرة أو اعتصام ، تجد الجند المركزى واقفا بالمرصاد ، مستعدا أن يضرب بكل قسوة ووحشية ، ولا يكون النظر العلمى الإنسانى بالبحث فى الموضوع ومعرفة أسبابه ودواعيه ،وكيف يمكن معالجته ؟ إننا فى علوم التربية والنفس نقول كثيرا أن " الضرب " هو مظهر ضعف لا قوة ، لماذا ؟ لأنه يشير إلى عدم معرفة الضارب بالأساليب الموضوعية الإنسانية ، فضلا عن ضيق صدره ،وضعف إيمانه بالحوار والديمقراطية ، بحيث لا يتصور أن يجتهد ويسعى ويحاول مرات ومرات ، تماما مثلما هو الأمر عند المقارنة بين النظم الديمقراطية والنظم الاستبدادية ، ففى النظم الديمقراطية لابد من مناقشات ودراسات ،ومشاركات من هيئات ومنظمات مجتمعية متعددة ، وهذا يستغرق وقتا ، ربما يكون طويلا ، لكن فى النظم الاستبدادية ، تكفى كلمات من الفرعون الأعلى ليتم القرار ، وليكن بعد ذلك ما يكون ، فالشرطة جاهزة ، والعصا الغليظة بالمرصاد ،والتقنيات الحديثة كفيلة بأن تمدنا بما نريد من مبررات " بالصوت والصورة " ، لا يهم إن كانت غير صادقة أم لا ، المهم أن نظل على كراسينا التى ننسى أننا لن ندوم عليها ..سنة الله فى خلقه ، ولن تجد لسنة الله تبديلا !!