بالرغم من تأكيد الكثيرين أن ما تم بعد حادث قطاري العياط ، هو إقالة وليست استقالة، إلا أنني أتمني أن يكون المهندس "محمد لطفي منصور" قد استقال مدفوعا بإحساس داخلي وقناعة شخصية بمسئوليته عما حدث، والسر وراء أمنيتي يكمن في أن نكون قد انتقلنا عبر ما حدث إلي مرحلة غير مسبوقة في حياتنا السياسية، وهي مرحلة"الاستقالة" التي غابت طويلا عن قاموسنا الإداري والسياسي في مصر،وهذا يعني نقلة نوعية في إحساس الحكومة بمعاناة الناس، وتقصيرها في حق الشعب المصري طوال عقود عديدة لم تضع الناس في حساباتها. وأنا مع من يقولون أن استقالة أو إقالة "منصور" جاءت في وقتها وأوانها المناسب ،وأنها كانت ضربة معلم، استغلت حادث القطارين لتحقيق عدة أهداف، إضافة إلي تهدئة الرأي العام الغاضب لإزهاق أرواح الضحايا، ويؤكد ذلك ما قاله الدكتور زكريا عزمي خلال اجتماع لجنة النقل في مجلس الشعب عقب الحادث مباشرة ،من أنه مطلوب من مجلس الشعب تهدئة الرأي العام ، كما أن الاقاله حدثت بسبب حظ الوزير السيئ لحدوث الحادث متواكباً مع مؤتمر الحزب الوطني الحاكم، فكان لابد منها محاولة لكسب التعاطف مع المؤتمر خاصة مع اقتراب الانتخابات البرلمانية بعد عام ، تعقبها الانتخابات الرئاسية والتي يريد الحزب الوطني الحاكم ان تمر بهدوء تام وذلك لمصلحة مرشح الحزب، وهكذا فإن ما حدث يصب في مصلحة النظام وتجميل صورته أمام الرأي العام الناقد والناقم علي العديد من سياسات النظام وخاصة محاسبة المسئولين. وتفسير تصوير ما حدث علي انه تجميل لصورة الحكومة، يعود إلي أنه طوال السنوات الماضية حدث العديد من الكوارث والمخالفات في قطاعات مختلفة في عهد وزراء، مصر الحاليين والسابقين التي ذهب ضحيتها مئات المصريين، ولم يتم إقالة أي من الوزراء المقصرين،ففي عهد الدكتور محمد إبراهيم سليمان عندما كان وزيرا للإسكان أكدت تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات عن وجود مخالفات جسيمة في عمليات العطاءات بالوزارة؛ حيث كان يتم رسو معظمها لصالح المكتب الهندسي لشقيق زوجة الوزير، بالإضافة لقضية الدكتور ممدوح حمزة الاستشاري المصري المعروف وهي القضية التي كشفت عن عمليات رشاوي واستغلال نفوذ واسعة من قِبل الوزير، ورغم الشائعات التي راجت وقتها عن رحيل الوزير بعد أن طالت القضية شخصيات كبيرة ومؤثرة بمصر، وقيام أجهزة رقابية حسَّاسة بالتحقيق في ملابسات القضية استمر الوزير رغم نصائح المقربين له بالاستقالة من منصبه. وينتشر الفساد في وزارة الحكم المحلي منذ فترة طويلة، سواء في الهيئات التابعة للمحافظين تلقائيا أو التي تخضع لرقابة وإشراف الوزارة نفسها، بالإضافة إلي ما تحمله تقارير الجهاز المركزي للمحاسبات سنويا بل شهريا عن عمليات فساد في الإدارة المحلية وصفها الدكتور زكريا عزمي رئيس ديوان رئيس الجمهورية وعضو مجلس الشعب بأنها " للرُّكَب"، إلا أنه لم يلتفت أحد إلي هذه التقارير ولم يعاقب أي وزير عليها رغم أنه مسئول عما يجري في وزارته مسئولية سياسية. وفي وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية والتي كان يتولاها الدكتور يوسف بطرس غالي وزير المالية الحالي؛ أكدت التقارير الرقابية وجود عمليات تلاعب واضحة وخطيرة في نقاط التجارة الخارجية وخاصة نقطة تجارة بورسعيد، كما كشفت تقارير الضرائب أن عمليات فساد واضحة شابت التبادل التجاري بين مصر والعراق في برنامج النفط مقابل الغذاء والتي كانت تشرف عليه الوزارة، مما ضيع علي مصر مليارات الدولارات التي استفاد منها أشخاص بعينهم. وفي زارة الزراعة ورغم سياسات الدكتور يوسف والي التي أدت إلي انهيار الزراعة وانتشار الأمراض الغريبة علي مصر كالفشل الكلوي والكبدي والأورام المختلفة، والتي أكدت التقارير الطبية أنها كلها كانت نتيجة للمبيدات المسرطنة التي أمر والي باستيرادها. ونفس الأمر حدث في وزارة الشباب والتي شهدت فضيحة صفر المونديال في عهد الدكتور علي الدين هلال ،ورغم فضح الجهاز المركزي للمحاسبات لكل الأبعاد والعمولات التي دفعت والرشاوي التي قدمت ووجود الأدلة علي ذلك فإن الملف تم إغلاقه دون رجعة! محرقة بني سويف وفي وزارة الثقافة حدثت العديد من الكوارث، منها فضيحة المتاجرة بتاريخ مصر في محاولة هدم باب العزب الأثري بقلعة صلاح الدين لمستثمرين إيطاليين لبناء فندق سياحي مكانه، والفضيحة ليست في المشروع وإنما عندما تبين أن هؤلاء المستثمرين أصدقاء لوزير الثقافة عندما تولي الأكاديمية المصرية بروما، ثم تبع ذلك قضايا الآثار الكبري وتهريب الآثار للخارج. كل ذلك يؤكد أن ما حدث لم تكن استقالة وكانت إقالة لتجميل صورة الحكومة قبل انعقاد مؤتمر الحزب الوطني، خاصة وأن شعاره كان موجها للمواطن المصري البسيط وكسب تعاطفه تحت شعر" من أجلك أنت" ولذلك كان لابد أن يترك "منصور الوزارة. وهكذا فإن مصر لم تعتد علي استقالة مسئول من منصبه أيا كان موقعه وخاصة إذا كان هذا المسئول في منصب الوزير، فقد مررنا بكثير من الكوارث التي كانت كفيلة بإقالة حكومات بأكملها ومع ذلك استمرت الحكومة وبقي الوزير دون مراعاة لما يتجرعه الشعب من مرارة استمراره. ** وأخيرا المشكلة ليست في استقالة وزير أو بقائه لأنها قد تكون حالة نادرة في العهد الحالي ولكن المشكلة في محاسبة هذا الوزير أو ذاك المسئول سواء بعد إقالته أو استقالته، ونحن لم نسمع أو نشاهد حتي الآن عن محاكمة وزير أو مسئول وهو في موقعه رغم ما يحيط بكثير منهم، فمن الضروري محاسبة المسئول المتورط في أي قضية حتي ولو لم يكن طرفًا أساسيا فيها لأنه مسئول عنها مسئولية سياسية باعتبار أنها وقعت في نطاق وزارته. ولا أعرف ما سر إصرار الحكومة علي عدم إصدار قانون أو تشريع لمحاكمة الوزراء وهو التشريع الذي بات ضروريا الآن أكثر من أي وقت مضي إذا كانت الحكومة جادة في برنامج إصلاحي. خير الختام: ** إذا مات الضمير فلا أمن ولا أمان،وعلي مصر السلام!!