الولايات المتحدة قوة عظمي حقيقية، فإنتاجها المحلي يمثل ثلث الإنتاج العالمي، وعملتها تمثل الاحتياطي العالمي الذي يعتمد عليه العديد من دول العالم، وهي قاطرة التنمية والازدهار الاقتصادي لدول عديدة من أوروبا إلي الصين واليابان والهند، بل ويعتمد عليها تقدم إفريقيا والعالم العربي وهو تقدم مازال أملا بعيد المنال. ولذلك يقال إذا عطست أمريكا أصاب العالم الزكام. ومن هذا المنطلق، فإن السياسة الأمريكية عبر العصور تمتد إلي مفهومين يعدان متناقضين إلي حد بعيد، الأول: المفهوم والنظرة المثالية لنشر قيم الديمقراطية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها، واستخدام الذرة من أجل السلام. وهذه النظرة المثالية عبرت عنها إدارات أمريكية متعددة ومختلفة في سياساتها، ولكنها من حيث الركائز المثالية تتشابه ابتداء من سياسة ودرو ويلسون ومبادئه الأربعة عشر عام 1917م، إلي الرئيس إيزنهاور ونشر الذرة من أجل السلام إلي الرئيس كارتر ومبادئ حقوق الإنسان إلي الرئيس بوش الأب وسلام الشرق الأوسط وبناء عالم جديد، والرئيس بوش الابن ومحاربة الإرهاب ونشر الديمقراطية إلي الرئيس الحالي باراك أوباما ودعوته لعالم خال من الأسلحة النووية ومد جسور التعاون والشراكة مع مختلف القوي، والدول من الصين إلي إيران إلي تركيا إلي أوروبا وروسيا والعالم الإسلامي. الثاني: المفهوم والنظرة الواقعية للسياسة، وهي التعبير عن المصالح الوطنية وعن نظرية القوة، وقد برع في هذا الصدد الرئيس الأمريكي هاري ترومان وعالم السياسة الأمريكي هانز مورجانثو، كما برز في استخدام سياسة القوة الرئيس جونسون في فيتنام والرئيس بوش الابن في العراق وأفغانستان. الرئيس الأمريكي باراك أوباما يبدو أنه مزيج من الاتجاهين، فهو يخير إيران بين البرنامج النووي العسكري وبين التقدم والازدهار الاقتصادي، ويعبر عن نفس الموقف، وإن كان بعبارة أقل وضوحًا بالنسبة لباكستان وأفغانستان ومحاربتهما للإرهاب والقاعدة، وبطريقة ضمنية يخير الدول العربية والإسلامية الديمقراطية ونموذجها التركي وبين الإرهاب، لم يقل ذلك صراحة وإنما إشادته بتركيا العلمانية والديمقراطية تحمل رسالة ضمنية للدول العربية التي تخشي الديمقراطية وحقوق الإنسان وتقاومهما بشدة وبأساليب ملتوية. الرئيس أوباما يسعي لعالم خال من الأسلحة النووية، هل هذا حقيقة أم وهم أم أنه مثل حلم الرئيس السابق جورج دبليو بوش حول رؤيته لحل الدولتين للصراع الفلسطيني الإسرائيلي الذي استمر ثماني سنوات بلا تقدم حقيقي وظل أملا وحلما؟ حلم الرئيس أوباما يتعلق بتركيا وانضمامها للاتحاد الأوروبي، وهو ما رفضه الأوروبيون بقوة خاصة فرنسا وألمانيا صراحة ودول أخري تظهر عند الضرورة، أما الشق الثاني من حلم أوباما التركي فهو دور تركيا في حل مشاكل الشرق الأوسط وآسيا الوسطي وجنوب آسيا وغرب آسيا، والسؤال: هل تركيا قادرة علي هذا الدور وتحقيق هذا الحلم؟ إننا ندرك أن تركيا حريصة علي التقريب بين الأطراف المتصارعة وليس لديها أجندة سلبية تجاه أحد من هذه الأطراف، وتعلن موقفها صراحة بلا مواربة بخلاف دول أخري في المنطقة أجندتها غير واضحة، بل توحي بالشكوك والتساؤلات. إن مشاكل المناطق المحيطة بتركيا أكبر من قدرات تركيا، بل وأعمق من إرادة وعمل وقدرات الولاياتالمتحدة نفسها، خذ علي سبيل المثال الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، إنه صراع علي الأرض من أجل الوجود. إسرائيل تزرع المستوطنات وتقيم الأسوار وتقتل الزرع والضرع وتستنزف المياه وتحرم الفلسطينيين من كل ذلك. والفلسطينيون يصرون علي القدس وإنهاء الاستيطان وعودة اللاجئين، هل هذه المطالب من أي من الجانبين يمكن تحقيقها في الخمسين سنة القادمة في ظل المعطيات الراهنة؟ إن كثيرا من الزعماء والسياسيين يكررون نغمة التفاؤل ويرفضون التشاؤم، ولكن التفاؤل مرتبط بالحلم والتشاؤم مرتبط بالإحباط، وكل منهما ترفضه النظرة السياسية الواقعية والموضوعية. ولقد أثير تساؤل، هل أوباما يحلم بتغيير العالم استنادا إلي خطة حقيقية ودراسة موضوعية؟ أم استنادا لتجربته الشخصية ونجاحه في الوصول لمنصب رئيس الولاياتالمتحدة؟ مما يعكس تغيرا في النظرة والسلوكيات لدي المواطن الأمريكي؟ أم أنه يعبر عن حلم وأمل مثل جورباتشوف الذي قضي علي الاتحاد السوفيتي وكتلته؟. وفي تقديري أنه من الصعب تخيل أن يكون مصير أوباما مثل مصير جورباتشوف، لأن الولاياتالمتحدة تختلف عن الاتحاد السوفيتي، الأولي دولة مؤسسات وديمقراطية وانفتاح، والثانية دولة أيديولوجية للحزب الواحد، والزعيم الأوحد علي غرار بعض دول الشرق الأوسط وإفريقيا. ولهذا انهارت وتحولت إلي دولة فاشلة مثل بعض دول الشرق الأوسط وإفريقيا التي أصبحت فاشلة أو علي وشك أن تصبح كذلك. إن الولاياتالمتحدة هي دولة بناء الحلم علي المستوي الفردي وهذا ما حققه أوباما لنفسه، وهي دولة إمكانية بناء الحلم علي المستوي الوطني فتحولت إلي قوة عظمي بالغة التقدم التكنولوجي والاقتصادي، وهي دولة الحريات السياسية والفكرية. ومن هنا تغير الميزان والتوازن الديمغرافي والسياسي للجماعات المختلفة في السياسة الأمريكية، ولذلك فمن الصعب تصور مصير أوباما مثل مصير جورباتشوف أو أن تكون الولاياتالمتحدة مثل الاتحاد السوفيتي، ولكن السياسة التوسعية العدوانية الأمريكية يمكن أن تتغير وتتحول لسياسة التعاون والشراكة والاهتمام ببناء حوارات وتحالفات مع القوي الدولية المختلفة في إطار معقول وواقعي وليس من نمط بناء عالم مثالي أخفقت الأديان الكبري في بنائه نتيجة النزعات التبشيرية والتركيز علي قيم معينة وليس القيم الإنسانية المشتركة. إن مسألة التبشير بالديمقراطية أو بعالم خال من التسلح النووي مسألة جميلة في القول بها والسعي إليها وطريقها مفروش بالنوايا الحسنة، ولكنه ملييء بالصعاب والعقبات والتوترات والمشاكل المعقدة، وهذا يجعل التحديات جساما وإن غدا لناظره قريب.