رأينا كيف أن مفهوم ال "كوفيرنانس" يحيل، من وجهة نظر الداعين إلي الأخذ به في مجال السياسة والحكم في العالم العربي إلي: "عملية ممارسة السلطة بالمعني الشامل للكلمة، فهو يضم ليس فقط الحكومة التي تتألف من مؤسسات فاعلة مكلفة بممارسة السلطة، بل يشمل ايضاً عناصر مماثلة تنتمي إلي القطاع الخاص والمجتمع المدني ... و"الكوفيرنانس" الصالح يتميز بخصائص أساسية مثل الشفافية والمسؤولية والفعالية والمشاركة العامة وحكم القانون. إنه الحرص بدون هوادة علي ان تسود هذه الخصائص الأساسية المحيط السياسي والاقتصادي والاجتماعي. والمرجعية المباشرة في هذا التصور ل "الكوفيرنانس" هي النظرية الاقتصادية المعروفة ب "الليبرالية الجديدة" New-liberalism وقد أثارت هذه النظرية، وتثير، جدلا واسعاً بين الاقتصاديين حول مدي صدقها وصلاحيتها، مما لا شأن لنا به هنا. ما نريده نحن من الإشارة إليه هنا هو التذكير بأنها هي نفسها النظرية التي يراد لها ان تطبق بصورة أو بأخري في العالم العربي بتوصية من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والتي تشكل الخصصة والانفتاح أبرز مظاهرها، والهدف هو: تقويم عملية تطبيق هذه النظرية ونتائجها في العالم العربي بالمقارنة مع "أنماط الدولة" التي عرفتها الأقطار العربية في العقود الأخيرة. ومعلوم أن هذه الأنماط صنفان: 1 - صنف يستوحي أو يطبق "النظام الرأسمالي"، أساس الليبرالية الجديدة هذه، إما منذ البداية (الاستقلال) كالمغرب ودول الخليج ... وإما منذ تدشين اختيار "الانفتاح" في الثمانينيات من القرن الماضي كمصر. الهدف: تقويم عملية تطبيق الليبرالية الجديدة ونتائجها في العالم العربي بالمقارنة مع انماط الدولة التي عرفتها الاقطار العربية في العقود الأخيرة. 2- وصنف ظل يستوحي أو يطبق النظام الأشتراكي منذ فترة ازدهار الفكر الاشتراكي في العالم العربي (الستينيات من القرن الماضي بصفة خاصة)، كالجزائر وسوريا والعراق وليبيا ... يتعلق الأمر إذن بتجربتين مختلفتين تستندان الي نظريتين متباينتين بل متناقضتين في كثير من اسسهما وتطلعاتها والمهمة التي يمكن أن ادعي إمكانية القيام بها هنا تقع خارج المجال التطبيقي وخارج البحث الميداني، فذلك ما ليس من اختصاصي. ومع ذلك، فإذا نحن اخذنا بعين الاعتبار الحالة العامة في العالم العربي، كما تصفها الأدبيات الاقتصادية والسياسية الراهنة، جاز القول إن أيا من التجربتين لم تحقق الأهداف التنموية المرجوة منها وإذن يجب البحث في أسباب فشلهما معا. يمكن أن يقال إن التجارب الاشتراكية قد فشلت أيضاً في مواطنها، وهذا صحيح بالنسبة للاتحاد السوفيتي والمعسكر الشيوعي علي العموم، ولكنه لا ينسحب علي التجارب الأخري التي سلكت منهجاً آخر في تطبيق النظرية الاشتراكية كالدول الإسكندنافية، كما لا ينطبق علي إنجازات الأحزاب الاشتراكية في البلدان الأوروبية الأخري، في مجال الخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة والضمان الاجتماعي وتعويضات البطالة وغير ذلك مما يندرج ضمن اهداف الاشتراكية. نحن لا نريد أن نصل الي نتيجة تقرر أن الفشل ليس فشل النظرية بل فشل التطبيق، فهذا الكلام عام. ما نريد طرحه هنا شئ أخر يفصح عنه السؤال التالي: هل من الممكن تطبيق نظرية نبعت من وضع معين في وضع آخر مختلف؟ هذا السؤال، طرح في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، بصيغة: هل يمكن الانتقال الي الاشتراكية في بلد متخلف؟. ونحن نعتقد أنه لاشئ يمنع من طرح هذا السؤال نفسه اليوم بصدد "الليبرالية الجديدة" فنقول: هل يمكن الانتقال الي الليبرالية الجديدة في بلد متخلف؟ . وما يجعل طرح هذا السؤال مشروعاً هو أن الامر يتعلق ببنيتين ايديولوجيتين ، متشابهتين من حيث التركيب، وإن كانتا متناقضتين من حيث الاتجاه كما هو ال حال في المتباينات التالية: الاستقلال الوطني/ العولمة، الاستقلال الاقتصادي/ الاندماج في السوق، تدخل الدولة للقضاء علي الاستغلال/ قيام المجتمع المدني بمحاربة الفقر . الكوفيرنانس/ الدولة الوطنية... من النظر إلي هذه النظريات المتباينة يظهر أن "الكوفيرنانس" يقع بديلاً عن "الدولة" ومحاربة الفقر مكان الاستغلال وهكذا وبما ان الايديولوجيا الوطنية اسبق زمنا من الايديولوجية الليبرالية الجديدة ي العالم العربي خلال المرحلة موضوع الحديث هنا (الخمسينيات/ الثمانينيات من القرن الماضي) فإن محاسبة الدولة في العالم العربي سواء كانت من هذا النمط أو ذاك. علي ما أنجزته في مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية والحد من الفقر.. الخ معناه في الحقيقة محاكمة انجازاتها بواسطة وعود الثانية! والمشكلة الاساسية في هذه المحكمة ليست في الاختيار الايديولوجي الذي يمكن التعبير عنه بهذا السؤال من يحق له ان يحاكم من ؟ بل المشكلة في الحقيقة سابقة لمثل هذا السؤال انها نفس المشكلة التي حللناها في بداية هذه المداخلة عندما كنا بصدد مناقشة الطريق التي تتم بها الترجمة عندنا في معظم الاحيان.