الطبقة الوسطي ليست فقط طبقة التوازن داخل المجتمع بين الأغنياء والفقراء، ولكنها كانت تاريخيا هي الحافظة للقيم محافظة كانت أو تقدمية، وهي التي تعوض المجتمع كله عن غضب وثورة الطبقات الفقيرة، وشطط الطبقات الغنية. سوف يجد المثقفون والمفكرون والكتاب الكثير من الزوايا التي يكتبون عنها عندما يتعرضون للانتخابات الأمريكية، ومنهم من سيجد عملية الانتخابات نفسها صناعة كبري جديرة بالاهتمام، ومنهم من سوف يكتشف الجانب الفيدرالي للانتخابات، وهناك من سيقارن المرشحين وكلاهما سواء أوباما أو ماكين فيه الكثير مما يثير ويبعث علي اهتمام القراء والكتاب معا، ومنهم من سوف يتابع استطلاعات الرأي العام ويبحث عن المعاني الكامنة فيها، ومنهم _ بالطبع-من سوف يبحث عن تأثير اللون في الانتخابات كما فعل أخوانا الدكتور مأمون فندي عندما نشر مقاله "اصحي للون". ولكن ربما لم يلفت النظر كثيرا في هذه الانتخابات أن المتابع الدقيق لكل شاردة وواردة لن يجد حديثا كثيرا عن "الفقراء" و"محدودي الدخل"، وحالتهم الصعبة؛ ولكنه سوف يجد الكثير جدا عن الطبقة الوسطي وأحوالها وكيفية الدفاع عنها حيث يؤكد كلا المرشحين، ومن قبلهما عشرات من المرشحين في الانتخابات الحزبية التمهيدية والكونجرس، أنهم الممثلون الحقيقيون، والمدافعين الأصلاء عن الطبقة الوسطي!. وربما كان الزميل مصطفي سامي هو الوحيد الذي تنبه إلي حقيقة غياب الحديث عن الفقراء في الانتخابات الأمريكية في عموده بالأهرام يوم الثلاثاء 21 أكتوبر الجاري تحت عنوان "الفقراء والانتخابات الأمريكية" حيث ذكر أن هناك قرابة 34 مليون أمريكي ممن هم تحت خط الفقر أي حوالي 11% من الأمريكيين الذين يبلغ عددهم 320 مليون نسمة، أي مثل عدد سكان العالم العربي، ويعيشون علي نفس المساحة تقريبا. وفي نهاية العمود نصح زميلنا العزيز أوباما بأنه يستطيع أن يجذب هؤلاء البؤساء ويضمن أصواتهم إذا وعد بالقيام بعملية إصلاح لأحوالهم الصحية والاجتماعية وتحويل العمال غير الشرعيين إلي شرعيين "حتي تختفي طوابير الذل والعار الأمريكي من الشارع الأمريكي". ومن المؤكد أن باراك أوباما لن يستمع إلي هذه النصيحة لأسباب ليس من بينها أن أوباما لا يتعاطف مع الفقراء؛ فالأرجح أن الرجل لديه قدر غير قليل من التعاطف مع الأقل حظا في الدنيا الأمريكية. ولكن صاحبنا لن يهتم لأن الفقراء أولا لا يصوتون خاصة إذا ما كانوا من المهاجرين غير الشرعيين الذين لم يحصلوا علي إقامة أو مواطنة بعد، أو أنهم ببساطة مهمومون بالاحتياجات الرئيسية للإنسان وأولها الطعام عن التفكير في الذهاب إلي صندوق الانتخابات. وهي ظاهرة موجودة في كل البلاد الصناعية المتقدمة والديمقراطية حيث لا يهتم حزب بالفقراء أو محدودي الدخل لنفس الأسباب من ناحية، ولأن المهمة الرئيسية في هذه المجتمعات فهي إدارة الغني وليس إدارة الفقر، وإدارة الثروة وليس إدارة الإفلاس، وإدارة الإنتاج وليس إدارة الاستهلاك. والحلقة الجوهرية في كل ذلك هي الطبقة الوسطي وليس الفقراء ومحدودي الدخل، لأنها من ناحية هي الأغلبية من حيث العدد، وهي أيضا مركز تفكير المجتمع وحيويته التي قد تأخذه إلي الأمام أو تجذبه إلي الخلف. ومن يعرف أمريكا وغيرها من الدول الصناعية فإن تركيبتها الاجتماعية تشبه الماسة التي يوجد لها طرف مدبب علي هرم صغير للغني، يتلون انبعاج كبير يمثل الطبقة الوسطي التي تقف علي رأس هرم آخر أسفلها مسحوب إلي طرف ندبب آخر يوجد فيه الفقراء. وبالنسبة لكل المرشحين من اليمين واليسار فإن المنافسة كلها تقوم علي هذه الطبقة التي تعاني من محاولات الفقراء في جذبها إلي أسفل لكي تشاطرها فقرها وبؤسها، ومن الطبقة الغنية أعلاها التي تحاول أن تمتص عائد جهدها للحصول علي غني أكثر. وفي عملية الجذب هذه من أعلي ومن أسفل توجد السياسة والانتخابات والأحزاب وجماعات المجتمع المدني وكلها تحاول أن تنقذ الطبقة الوسطي وتبقيها علي اتساعها. فالطبقة الوسطي ليست فقط طبقة التوازن داخل المجتمع بين الأغنياء والفقراء، ولكنها كانت تاريخيا هي الحافظة للقيم محافظة كانت أو تقدمية، وهي التي تعوض المجتمع كله عن غضب وثورة الطبقات الفقيرة، وشطط الطبقات الغنية، وباختصار فإنها قبة الميزان، ومركز الاعتدال، الذي بدونه لا تقوم السياسة ولا الديمقراطية، ويحل محلهما الصراع الذي ربما يصل إلي الحرب الأهلية. ولذلك فإن ماكين وأوباما، ومن قبلهما ومعهما هيلاري كلينتون وروماني ومرشحان آخران لم يكفوا للحظة واحدة عن الحديث عن الطبقة الوسطي، ولم يطرأ علي لسان أحد حديث عن الفقراء أو محدودي الدخل، ولكن الكل علي قدر الاختلاف والمنافسة لم يتوقف أبدا عن الدفاع عن الطبقة الوسطي والتأكيد تلو التأكيد علي أهمية الحفاظ عليها وعلي ثروتها وأجورها وبيوتها ومعاشاتها. مثل ذلك لم يلق اهتمام أحد في مصر لأن الحديث عن الفقراء ومحدودي الدخل طغي علي كل حديث آخر، ولأن الطبقة السياسية في مصر قسمت مصر رغما عنها إلي فقراء وأغنياء ولا شيء بينهما، بل أن هناك حالة من الاستنكار المزمن لمن يطرح وجود هذه الطبقة واتساعها خلال الأعوام القليلة الماضية طبقا لمؤشرات عدة منها أنماط الاستهلاك، ومنها أنواع العمل الجديدة، ومنها العولمة، ومنها التطورات التي جرت علي التعليم، وعلي الاقتصاد القومي، بل حتي علي شكل المدينة المصرية، واتساع الحضر علي حساب الريف، والتوسع التدريجي في اقتصاد السوق، والتطورات التكنولوجية المتتالية، ومعها التطور في مجال الميديا أو الإعلام. والحقيقة أنه لا يمكن تفسير فشل التنبؤات المتتالية من قبل كتاب ومفكرين بقرب حدوث الثورة أو ما قال به الأستاذ نجاد البرعي بقرب قدوم الطوفان إلا بأن الطبقة الوسطي المصرية التي اتسعت خلال السنوات الماضية لديها تحفظاتها علي الثورة التي عانت منها من قبل، وتحفظاتها علي الطوفان التي تري بصماته في بلدان عربية وإسلامية مجاورة من أول فلسطين والسودان في الجوار المباشر وحتي باكستان وأفغانستان في الأطراف البعيدة. وليس معني ذلك أن الطبقة الوسطي المصرية راضية علي أوضاع البلاد ولعل ذلك يبرر الضجيج المستمر الصادر منها، ولكن بقاء الضجيج علي حاله راجع إلي أن الاختيارات المتاحة إما أنها محدودة الأفق أو أنها تمثل بدائل مرهقة أو تؤدي إلي تدهور الأوضاع أو حتي تصل إلي الفوضي الطاحنة التي هي أعدي أعداء الطبقة الوسطي التي تريد أن تعمل وتستمتع بثمار عملها في هدوء وأمن. فالطبقة الوسطي المصرية، مثلها مثل كل الطبقات الوسطي في العالم، تعرف أنها أولي ضحايا الفوضي، فالأغنياء ساعتها يعرفون كيف يفلتون إلي الخارج أو حتي يشترون الفقراء، أما الفقراء فإن الغنيمة توجد دائما فيما لدي الطبقات الوسطي القريبة والمتصلة اتصالا وثيقا بمحدودي الدخل. وفي الأوقات الصعبة تتطحن الطبقة الوسطي بين الأغنياء والفقراء وتفقد مدخراتها القليلة، وفي كل الأحوال تفقد أمانها وطمأنينتها التي بدونها لا تعيش. راقبوا العالم جيدا وسوف تجدون أن مفتاح التقدم والتغير يحدث عندما تكون الطبقة الوسطي هي مركز اهتمام السياسة، بل انهم هم الطريق الاجتماعي إلي الديمقراطية والتقدم، أما الفقراء ومحدودو الدخل، فليس لهم الكثير في عملية الانتخابات، ولن يمانعوا أبدا في الرشاوي الانتخابية، وفي لحظات الفوضي الكبري تجري المساومات بينهم ومن يملكون الثروة ليس من أجل تنميتها ولكن من أجل توزيع القليل منها إلي الفقراء بعد تطعيمها بشعارات ضخمة عن العدالة والعدل، أما الكثير فإنه سيبقي دائما حيث هو مع الأغنياء. إنها حكمة التاريخ، وحكمة انتخابات الدول المتقدمة؛ تابعوا الفصل الأخير من انتخابات أوباما وماكين!!.