تحاول بعض الفئات في المجتمع اضفاء حصانة علي أوضاعها بزعم "قدسيتها"؟ أو لمهارتها التي لا يرقي اليها شك!؟ واسهل الطرق الي ذلك هو صنع اصنام لا يجوز الاقتراب منها - فاذا تناول عمل درامي - فيلم أو مسلسل مثلا - طبيبا بالنقد أو حتي سرد قصة واقعية بطلها طبيب تصرف بما يجافي مهنته النبيلة، تقوم دنيا الاطباء ولا تقعد.. احتجاجات واعتراضات من النقابة ومن الزملاء والحجة انه لا يجوز تلويث سمعة الاطباء حماية للمهنة السامية واذا كان بطل العمل الفني محاميا ممن يلعبون "بالبيضة والحجر" ويوظف القانون لخدمة اغراض غير قانونية ولا مشروعة، تثور ثائرة نقابة المحامين غيرة علي سمعة المدافعين عن الحق وكأنهم جميعا ولدوا من نفس العجينة وتربوا بذات الطريقة وشبوا في نفس الظروف.. وكأننا امام "نماذج" مصنوعة حسب المقاييس والحسابات اللازمة ولسنا في مواجهة بشر يصيبون ويخطئون بعضهم يصمد أيا كانت الضغوط ويتمسك بالمباديء والقيم وبعضهم الآخر تغريه ملذات الحياة ولا يري غضاضة- في التلاعب بكل ما هو متاح لتحقيق اغراضه في الثراء أو النفوذ أو المناصب واذكر عندما كان الكاتب الراحل صالح مرسي في بيتنا الباريسي عندماكان يصور فيلم "الصعود الي الهاوية" وكيف اصرت الرقابة علي ان يكون "الخائن" الذي جندته خطيبته الجاسوسة، مهندسا وليس ضابطا كما هو الواقع.. وتناقشنا طويلا، صالح مرسي وكان معه اصدقاء له مع زوجي الكاتب الراحل علي الشوباشي ومعي.. ابديت دهشتي من موقف الرقابة التي تريد ان تغطي علي ضابط خضع لتأثير خطيبته ولم يقدر فداحة ما فعله بالوطن.. كنت أري ان تسليط الضوء علي مثل هذه النماذج التي تشذ عن اطار أي مهنة بمبادئها وقيمها امر شديد الايجابية حيث يوضح بشاعة الجرم أو الفعل أو الكلمة المغشوشة من جهة ومن جهة اخري يعمق شعور الناس بالنفور من مثل هذه النماذج اضافة بطبيعة الحال الي الردع عن طريق عقاب الجاني أو المذنب اما ان نقوم بوضع سياج كثيف حول كل فئة أو مهنة وان يتسع هذا السياج ليشمل كل فئات ومهن المجتمع تقريبا فذلك يعني انه لم يعد مسموحا لاي صوت بالاشارة الي أية تجاوزات أو سلبيات.. اقول كلامي هذا بمناسبة ورود اسماء ضابط شرطة ومحام ومستشار في قضية رشوة.. وطبعا كلنا نعلم ونسلم بأن القضاء هو احد الحصون المصرية المنيعة والعظيمة والشامخة وهو يحمي البلاد من كل ما قد يصيبها من اذي.. لكن ذلك لا يعني ابدا ان نداري علي المخطيء بدعوي الحفاظ علي سمعة ابناء المهنة مثلما هي الحال لضابط الشرطة أو المحامي أو القاضي.. فلو كنا فعلا كما تريد ان تصورنا الرقابة، من جنس الملائكة والذين لا يأتيهم الباطل من بين ايديهم، لكان حالنا غير الحال ولاختفي الفساد ولما زادت معدلات الجريمة بالوتيرة التي نشاهدها الآن والتي تفزعنا كذلك بنوعيتها وبقليل من التفكير، سيسهل علي الكل ادراك ان "النموذج السيي"" ليس هو النموذج السائد فكم ادمت قلوبنا تضحيات رجال شرطة بأرواحهم في سبيل الواجب وكم امتلأت صدورنا بالفخر ورجال قواتنا المسلحة العظيمة يرفعون رايات التحرير والنصر وكذلك الحال بالنسبة لانجازات الطب ونشاط المحاماة وبالطبع تفاني القضاة في سبيل احقاق العدالة.. لكن المجتمع السليم لا يخشي من تشخيص جراحه وتطهيرها ولا يهتز لأن واحدا من ابنائه من هذه الفئة أو تلك وهنت مقاومته لاغراء الثراء أو النساء أو اي شيء يتفق مع المباديء بل ان مواجهة الخطأ - أيا كان مرتكبه- دليل صحة وعافية وثقة بالنفس، كما ان اخطر ما يقع لوطن هو ان يحجب القائمون عليه الحقيقة حتي لو كانت انحرافا أو تجاوزا معيبا بدعوي الحفاظ علي سمعة البلد أو سمعة المهنة أو أي سمعة كانت .. بل الواجب ان تدفعنا مثل هذه الانحرافات حتي في اوساط لم يكن من المتصور ان يصل اليها الفساد الي التأمل والبحث المتعمق في احوال المواطنين. ولن انسي ان صديقا قال لي يوما: انا قلق علي بلد يخرج فيه الحاجب من المحكمة ليركب سيارت المرسيدس بينما يخرج القاضي لكي "يتشعلق" في الباص أو الميروباص ان ذلك يعني ان القاضي يتقاضي مرتبا محدودا بينما الحاجب يحصد يوميا عشرات الجنيهات "الحرامية" أو سمها ما شئت.