تدرك هذه الدول الآن أن الدول العظمي لا تخاطر بخوض مواجهات عسكرية مع العمالقة الحربيين، أياً تكن أهداف نشر الحرية وقيم الديمقراطية في مناطقهم تميل التعليقات السياسية الشائعة في أمريكا وأوروبا علي ردة الفعل الروسية علي الهجوم الذي شنته جورجيا ضد قوات حفظ السلام الروسية المرابطة في أوسيتيا الجنوبية، إلي وصفها بالإفراط في استخدام القوة العسكرية ضد جورجيا، وبالتالي فإنه تجب معاقبة روسيا علي عدوانها الواسع ضد جارتها. غير أن هذه التعليقات تتهرب من الاعتراف بحقيقة أن أكبر خسارة ناجمة عن ذلك القرار الساذج من جانب الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي، هي ما ألحقها بكل من حلف "الناتو" والولاياتالمتحدةالأمريكية، علاوة علي الخسائر الفادحة التي تكبدتها بلاده، والتي ستظل دولة ذات سيادة ناقصة محدودة، لفترة طويلة قادمة، إضافة إلي الحرج الذي تسبب به ساكاشفيلي لحلفائه الغربيين. فالمتوقع أن تبقي القوات الروسية في أراضي جورجيا لأمد غير معلوم، بدعوي حماية مواطني إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا الانفصاليين، واللذين أعلنا استقلالهما مؤخراً. والمرجح أن يبقي هذان الإقليمان إما تحت الحماية العسكرية الروسية باعتبارهما دولتين مستقلتين، أو أن ينتهي بهما الأمر إلي الانضمام لروسيا. وفي هذه المرحلة علي الأقل، تفضل موسكو الخيار الأول، لكونه يستند إلي سابقة الإعلان عن استقلال إقليم كوسوفو الصربي في شهر فبراير من العام الحالي، تحت الرعاية الأمريكية... كما يحلو تأكيد هذه الحقيقة لموسكو دائماً. وعلي أية حال، فقد جاءت الأزمة الجورجية الأخيرة بمثابة انعطاف مهم في وضع العلاقات الدولية الراهن، لكونها أظهرت بوضوح أنه ليس في مقدور واشنطن حماية جورجيا، رغم سيادة شعور دولي وإقليمي عام بأن واشنطن لن تتردد في الدفاع عن جورجيا أمام الهجوم الروسي الواسع الذي تعرضت له، خاصة أن الجيش الأمريكي هو الذي تولي تدريب وتسليح نظيره الجورجي، وبسبب كل ما اعتادت واشنطن علي إبدائه لجورجيا ولقيادتها من طمأنة علي حمايتها والدفاع عنها. والسبب وراء هذا التقاعس الأمريكي، كما يري بعض المحللين، هو أن واشنطن متورطة علي نحو ما في العدوان الذي شنته جورجيا علي قوات حفظ السلام الروسية المرابطة في أوسيتيا الجنوبية. ويذكر أن هذه القوات كان قد تم نشرها منذ 16 عاماً بموجب اتفاقية دولية أبرمت إثر أول محاولة قامت بها جورجيا لاستعادة إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا الانفصاليين إلي سيادتها الكاملة، مع العلم أنهما إقليمان تغلب عليهما العرقية الروسية ويتمتعان بالحكم الذاتي. وفوق ذلك فقد ظلا كلاهما تحت مسمي "المحميات الروسية" منذ عام 1810. وكان الروس قد عبروا عن شكوكهم مسبقاً حول قيام بعض السفن الأمريكية بنقل الأسلحة إلي جورجيا وغيرها من دول المنطقة الأخري. وعليه، فقد استهدف الهجوم الروسي الأخير علي جورجيا، تدمير كل ما تبقي من تلك الأسلحة والمنشآت الحربية الجورجية. ومع إعلان نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني اعتزامه زيارة جورجيا خلال الأسبوع الحالي، عقب جولة له في كل من أوكرانيا وأذربيجان، فمن المتوقع أن يصطحب معه الوحدة الجوية المقاتلة رقم 82 والأسطول البحري الأمريكي السادس. وفيما يبدو، فإن هذه الفرق الحربية هي التي تساءل عنها ساكاشفيلي ليلة فشل هجومه الغافل علي أوسيتيا الجنوبية بقوله: أين أمريكا... أين العالم الحر؟ ومنذ تلك الليلة تلقي ساكاشفيلي وعوداً بالوقوف إلي جانب بلاده من المرشح الرئاسي الجمهوري جون ماكين والسيناتور جو بايدن المرشح لمنصب نائب الرئيس عن الحزب الديمقراطي، وكلاهما من معجبي ساكاشفيلي الذي يصفانه ببطل جورجيا المحرر. هذا وقد تعلمت أوكرانيا ودول البلطيق الدرس الجورجي جيداً، إذ تدرك هذه الدول الآن أن الدول العظمي لا تخاطر بخوض مواجهات عسكرية مع العمالقة الحربيين، أياً تكن أهداف نشر الحرية وقيم الديمقراطية في مناطقهم. وفي حين انزلقت كل من بولندا وجمهورية التشيك إلي إبرام صفقة نصب نظام الدرع الصاروخية الأمريكية في أراضيهما، إلا أنهما اكتشفتا حالياً أن ما طمأنتهما به واشنطن من توفير الحماية لهما، لم يكن سوي ورقة انتخابية قصدت بها إدارة بوش إرضاء الناخبين الأمريكيين بسياسات حزبها الجمهوري، إضافة إلي أن تلك الصفقة لم تزد عن كونها مدرة لمزيد من أموال الخزانة الأمريكية. وعلي صعيد آخر من وضع العلاقات الدولية الراهن، ها هي إسرائيل وقد اكتشفت للتو أن محادثات تجري بين دمشقوموسكو حول صفقة لشراء الأسلحة من روسيا، بينما يتوقع أن يتوقف تعاون موسكو مع واشنطن في عدد من القضايا المحورية... من بينها إيران و"حزب الله" وحركة "حماس"، إلي جانب توقف تعاونهما معاً في مكافحة الإرهاب والانتشار النووي. فما السبب؟ الإجابة حسب ما يستطيع المرء استنباطها، أن سلسلة متعاقبة من السياسات التي اتبعتها إدارتا كلينتون وبوش وكذلك "البنتاجون"، هدفت إلي إظهار مجاني لقدرة الولاياتالمتحدة علي انتهاج سياسة الترهيب، والمضي في بناء وتوسيع حلف "الناتو" في الدول المجاورة لروسيا. بل مضت تلك السياسات خطوة أبعد منها في التهور والطيش، بلغت حد تصور إمكانية استيلاء حلف "الناتو"، أو تحت مظلته باسم الدول الجديدة التي سيتم ضمها إليه في منطقة القوقاز، علي بعض "المحميات الروسية" التقليدية المعروفة تاريخياً. والهدف وراء هذه السياسة الغريبة المغامرة هو أن تعرف روسيا من القوة العظمي الأولي في عالم اليوم!