من شاهدوا الفيلم أجمعوا أن بالفيلم طبقاتٍ من البشر تجاوزت في فقرها كل ما عهدناه ورأيناه من فقر. مصريون ليسوا تحت خط الفقر، بل تجاوزوا هذا "التحت" بمراحل. من يخاف فرجينيا وولف؟ سؤالٌ أطلقه الأمريكي إدوار آلبي منذ أربعين عاما كعنوان لإحدي مسرحياته. وأنا أحد الذين يخافونها، لأني من أكثر من أحبوها. لذلك كلما أقدمتُ علي قراءتها أو ترجمتها أتهيأ ذهنيا وروحيا كمن علي وشك الدخول في صلاة. نعم، فثمة درجات من الحب تقترن بالخوف. وهذا، بمعني من المعاني، يتفق مع المذهب الأبيقروي الذي قرن المتعةَ بالألم، إذا ما اتفقنا أن الحب متعةٌ وأن الخوفَ يسبب لونا من الوجع، ربما الممتع. الشيءُ ذاته شعرتُه تجاه هذا الفيلم، "حين ميسرة"، الذي أثار جدلا واسعا لم يتوقف بعد. ظللتُ أخافه رغم أنني لم أكن قد شاهدته. تماما مثل خوفنا من فرجينيا وولف قبل أن نقرأها، ثم حين نقرأها يزداد خوفنا! الخوف الأول هو خوف من مجهول. والخوف الثاني هو خوف من معرفة هول هذا الذي كنّا نجهل، إذْ كلما عرفنا ذلك المجهول ازداد يقينُنا بأنه أشد غموضا مما كنا نظن. لكنني في الأخير استجمعتُ شجاعتي وذهبت لأشاهد هذا الفيلم المُربِك الشيق الشاقَّ الشقي. كان أصدقائي، أدباءَ وصحفيين، يأخذون علي أنني أُحجمُ عن مشاهدته دون مبرر معقول. كلُّ المصريين شاهدوه، بعضهم شاهده أكثر من مرة، وصارَ حديثَ المدينة، ذاك أنه قسمَ الرأي العامَ قسمين: ما بين معادٍ جدا، ومؤيدٍ جدا. وأقولُ لهم: طيب، سأراه حين ميسرة! فيضحكون. ثم فتشتُّ بين أروقة نفسي: لماذا أخاف هذا الفيلم؟ ولماذا لم أرحّب أن يراه ابني مازن، رغم أنني أعامله علي نحو ليبرالي منفتح ولا أخشي عليه من صدمات كسر التابو كما فعل معنا أهلُنا قديما فتشوّهت مداركُنا. لماذا أُحجمُ عن الفيلم رغم أنني دافعتُ عنه مسبقا وتساجلتُ بشأنه مع أصدقائي الإعلاميين الذين هاجموا الفيلم في مقالاتهم أو في التليفزيون. دافعتُ عنه اعتمادا علي رصيد المخرج "خالد يوسف" عندي. هو تلميذ "يوسف شاهين"، المخرج الفذ. لكن التلميذَ أدخلَ خطًّا جديدا علي منهج الأستاذ قرّبه من المشاهد المصري العادي غير النخبوي. تخلّص خالد يوسف من غموض شاهين وتعمّده الإيغالَ في تشظية الحدث وتفكيك الزمن. تلك التيمات التي جعلت من أفلام شاهين الأخيرة أُحجياتٍ مُلغزة، تروق كثيرا للمثقفين والفنانين والمجانين، لكنها تُنفّرُ المتفرجَ العادي الباحثَ عن "حدوتة" جميلة وحبكة ودراما متسلسلة كما عودتنا السينما المصرية منذ بداية القرن الماضي. حيث: يبدأ الفيلم بنقطة انطلاق، ثم تعلو الدراما مع الحدث حتي تصل إلي الذروة أو "العقدة الدرامية"، ثم تتوالي الأحداثُ حتي نصل إلي النهاية. التي قد تكون حلاًّ للعقدة، أو لا تكون. وقد يبدأ الفيلم من نقطة الذروة ثم يمضي في "لملمة" الزمن بالفلاش باك حتي تكتمل الصورة. المهم أن الحدث هو البطل. استطاع المخرج الشاب الاقتراب من هذه التيمة الأثيرة لدي المتفرج العربي، لكن بتقنيات فنية حداثية تشي بموهبة واعدة ورفيعة. وعرفتُ السرَّ وراء إحجامي. هو الخوفُ من الخوف. ذاك أن من شاهدوا الفيلم أجمعوا أن بالفيلم طبقاتٍ من البشر تجاوزت في فقرها كل ما عهدناه ورأيناه من فقر. مصريون ليسوا تحت خط الفقر، بل تجاوزوا هذا "التحت" بمراحل. وأنا أخافُ أن أخافَ علي مصر. يقول الفيلم إن عشرين مليون نسمة تعيش في العشوائيات! وأن سبعةَ ملايين طفل يهيمون في الشوارع! يا إلهي! هل هذه مصر؟ مصر الجميلة. وماذا أقول لابني الذي كثيرا ما اصطحبته لنقف أمام الهرم وأنا أهتفُ: شوف قد ايه مصر عظيمة! هذا المشهد الذي تراه الآن ببساطة يدفع الأوروبيون عشرات الآلاف من الدولارات كي يروه! هذه بلدنا، نحن من هذا البلد! فماذا عساي أقول الآن؟ هل هكذا صارت أرضُ أعظم حضارات العالم!؟ وماذا فعلت ثورة يوليو إذن التي وعدت بتذويب الفوارق بين الطبقات؟ كيف سمحنا بأن يحدث ما حدث إن كان قد حدث؟ وأين المصريون فائقو الثراء وإن قلّ عددُهم؟ أين الحكومة؟ أين الرئيس؟ أين الضمير العام؟ ولأنني لا أمتلكُ أية إجابة عن أي سؤال مما سبق، فقد اتخذتُ الطريقَ الأسهل. وهو عدم طرح تلك الأسئلة. ومن ثم عدم مشاهدة الفيلم. لكن موجة الغلاء الكوميدي التي اكتسحت مصر مؤخرا، بما يشير بوشك دخولها مجاعةً محققة، جعلتني أغير في التكتيك، وإن حافظتُ علي استراتيجيتي العامة وهي: الوهمُ الجميلُ خيرٌ من الواقع المرّ. هذه الحكمة البليغة وصلتُ إليها بعد مراس طويل مع المرارات التي لا حلّ لها. وطبعا لا أُلزمُ أحدا بهذه الاستراتيجية. هي حكمتي الخاصة بوصفي شاعرةً طوباوية تحيا في وهمها الخاص، والشعراءُ، كما تعلمون، لا جُناح عليهم. قررتُ الذهابَ إذن لأعرف عن أي فقراء يتحدث الفيلم، مادام الوضع الجديد بمصر سيجعل كلَّ الشعب فقيرا! الطبقة الوسطي تحللت فصعد نصفٌ بالمئة إلي فوق وصاروا فاحشي الثراء، وهبطت الغالبية الكاسحة إلي قاع الفقر والعوز. فأي فقر يطرحُ الفيلم؟ ووضعت لنفسي خطَّ رجعة. لو لم أتحمّل سأخرج في منتصف الفيلم ثم أُفعّل حيلي الخداعية وأقول لنفسي: لا تصدقي يا بنت! هذا مجرد فيلم! يعني وهمًا وفانتازيا! ومصر بخير. دخلتُ الفيلم ولم أُصدَم كثيرا كما كنت أظن. الفقراءُ يعوزهم المال، لكنهم استنبتوا لأنفسهم أظافر حادة من سلاطة اللسان والجهل وانعدام الخلق. نعم طبعا، فالعلمُ والرقي يفقدانك شيئا من قوتك. الخلقُ يعلي صوتَ الضمير داخلك فتحجم عن أي سلوك ينالُ من خارطتك الخُلقية التي رسمتها لنفسك. لكن الفقير جدا ماذا يفعل غير أن يطيحَ بكل شيء حتي يعيش؟ الفيلم يقدّم رسالةً شديدة اللهجة إلي النظام. رسالة تقول: مع كلِّ لقمةٍ تنتزع من فمٍ فقيرٍ ثَمَّ نابٌ سامٌّ ينبت. وفي جعبة كل معوز جائع، ثَمَّ مجرمٌ وإرهابي وضالٌ يتكوّن. فاحذري أيتها الحكومة التعسة! وسألتُ نفسي: يا تري أيهما أقوي: طالبةٌ موسرةٌ في الجامعة الأمريكية، أم البنتُ التي تنامُ في الشارع وتأكل من القمامة وتضاجعُ الأولادَ وتنجب أطفالا وهي بعدُ طفلة؟ الأولي قوية بمالها وعلمها، لكن الثانية أقوي بلسانها وأظافرها وبتحررها من مانيفستو الأخلاق والأعراف الذي رسمه لنا الدين والمجتمع. الكلُّ قوي إذن، والكلُّ ضعيف ومأزوم وتعس. مادامت الدولةُ غائبةً، والحكومةُ تعرف كيف تحكم، ولم تتعلم كيف تحب!