قبل أن ينقضي الشهر الفائت، وعقب زيارة قام بها إلي أنقرة أخيراً برفقة رئيس المفوضية الأوروبية جوزيه مانويل باروسو، أكد المفوض الأوروبي لشئون توسيع الإتحاد الأوربي، أولي رين في مقابلة مع صحيفة "داي فيلت"الألمانية أن تركيا قد تتمكن من الانضمام إلي الاتحاد الأوروبي في غضون عشر سنوات أو خمسة عشر عاما شريطة أن تواصل تنفيذ الاصلاحات المطلوبة والوفاء بالشروط الأوربية التي تفرض عليها مشيرا إلي أنه ما زال أمامها طريق طويل قبل أن تنال ذلك الانضمام،يبدأ من سعي تركيا الدءوب لتأمين مزيد من الحماية للنساء والأقليات وضمان مزيد من حرية التعبير. وقد كان من بين بواعث الدهشة في هذا الخصوص ، أن هذا التصريح الصادم قد جاء متزامنا مع تلميحات وإشارات إيجابية تركية فيما يتصل بواحد من أهم الملفات التي تباعد بين تركيا وحلمها الأوربي ،وهو العلاقة مع الأرمن ،حيث أكد وزير الخارجية التركي علي باباجان أن بلاده حريصة دائماً علي إبقاء أبواب الحوار مفتوحة مع أرمينيا بهدف تطبيع العلاقات بين البلدين. وأعرب باباجان عن استعداده للقاء نظيره الأرمني في أي مكان وزمان، كما تمني إجراء حوار إيجابي مع أرمينيا بحيث يسهم ذلك في حل مجمل المشاكل التاريخية والآنية بين الدولتين،والتي من أبرزها الاتهامات الأرمينية لتركيا بارتكابها عمليات إبادة ضد الأرمن طالت مليونا ونصف المليون أرمني ،حسب الرواية الأرمنية،إبان الحرب الكونية الأولي وأواخرعهد الإمبراطورية العثمانية. ولقد جاءت تصريحات المفوض الأوربي أيضا متناغمة مع سيل من التصريحات والمواقف والطروحات الأوربية ،التي تصب جميعها في خانة رفض منح تركيا العضوية الكاملة في الإتحاد الأوربي ،بدء من تظاهرات شعبية تطالب قادة الاتحاد الأوروبي برفض ضم تركيا له، مرورا بطرح حكومات دول مثل فرنسا وهولندا لفكرة إجراء استفتاء شعبي علي ضم تركيا للاتحاد،حيث شهدت الساحة السياسية الفرنسية علي سبيل المثال انقساماً بشأن الطلب التركي الانضمام للاتحاد الأوربي، وطرحت وجهات نظر دينية لتبرير رفض ذلك المطلب ، كماأظهر أحدث استطلاع للرأي أجراه معهد "إيبسو" الفرنسي أن غالبية الفرنسيين يعارضون انضمام تركيا للاتحاد الأوربي،وإنتهاء بالطرح الألماني الفرنسي بشأن الإستعاضة عن قبول عضوية تركيا الكاملة في الإتحاد بصيغة أخري أقل إندماجا لكنها تحتوي علي وشائج تقارب وهي ما إصطلح علي تسميته "الشراكة المميزة". والأدهي من ذلك،أن السبب الحقيقي لرفض إنضمام تركيا للاتحاد الأوروبي ،والمتمثل في كونها دولة مسلمة يقطنها ما يدنو من ثمانين مليون مسلم ،لم يعد مستترا مثلما كان علي مدار أكثر من أربعين عاماً مضت ،إذ لم تتورع دوائر سياسية ودينية أوربية عن الإشارة إليه في إعلان رفضها قبول عضوية تركيا في الإتحاد ،كما لم يتردد رؤساء دول وكنائس غربية في التأكيد علي أن الطلب التركي مرفوض؛ لأن تركيا دولة ذات أغلبية سكانية مسلمة رغم محاولات حكومتها التركيز علي البعد العلماني، وأن هناك مخاوف من ضم دولة إسلامية لتجمع مسيحي. كذلك ،ظلت عدة دول أوربية مثل بولندا وإيطاليا تحاول قبل إقرار الدستور الأوروبي تضمين مسودته عبارة "الطابع المسيحي للاتحاد الأوروبي" ، وهو ما أثار جدلا أوربيا حامي الوطيس ،لم تهدأ جذوته إلا بتنامي مخاوف دول أخري في الإتحاد كفرنسا من إتهام الإتحاد بالعنصرية ،ومن ثم خلا نص الدستور من إعتبار المسيحية صراحة دينا رسميا للإتحاد الأوربي. غير أن هذا الدستور قد تضمن إشارات إلي "الميراث الثقافي والديني لأوروبا التي ما زالت قيمها موجودة في تراثها"، وقال رئيس وزراء بولندا ، بإيعاز من بابا الفاتيكان السابق ،البولندي الأصل أن هذه المقدمة تتحدث عن التقاليد الأوروبية "ويجب أن يكون ضمن هذه التقاليد دون أدني شك المسيحية"، وطالبت بالأمر نفسه وزيرة الخارجية الأسبانية آنا بلاثيو، ونفت الاتهامات بأنها تحاول تحويل أوروبا إلي "ناد مسيحي"، مشيرة إلي أن الهدف هو فقط "إبراز " الميراث المسيحي لأوربا دون استثناء الديانتين اليهودية والإسلامية. والغريب أنه رغم السعي الأوروبي للتبرؤ من تهمة العنصرية الدينية وتأكيد أنه لا توجد حساسية من ضم دولة إسلامية للاتحاد ، بدليل مطالبة رئيس النمسا بضم دولة البوسنة ذات الأغلبية المسلمة أيضا للاتحاد ، والإشارة إلي أن دول الاتحاد رفضت النص في دستور الاتحاد الأوروبي الذي أقر في نوفمبر 2004م علي "الطابع المسيحي للاتحاد الأوروبي"، فقد ظهرت مواقف مريبة من مسألة انضمام تركيا رغم وفاء حكومة حزب العدالة ذي الجذور الإسلامية بغالبية الشروط الأوروبية،حتي إن الإتحاد علق قبوله عضوية تركيا بتسويتها للمسألة القبرصية وإعترافها بمذابح الأرمن ،وهما مطلبين تعجز أية حكومة تركية عن الإستجابة لهما حتي لو إضطرت للتضحية بالحلم الأوربي. فالقضية القبرصية علي سبيل المثال تسبب انقساما تركيا داخليا ليس فقط بين حزب العدالة والجيش الذي ظل يحمي قبرص التركية سنوات، ولكن بين الأحزاب التركية نفسها التي تعتبر الاعتراف بقبرص اليونانية تضحية بقبرص التركية وتخلي عن مسلميها خصوصاً في ظل رفض القبارصة اليونانيين المسيحيين الاتحاد مع الشطر المسلم من قبرص.فتركيا هي الدولة الوحيدة التي لا تعترف بالجمهورية القبرصية القائمة في الشطر الجنوبي من الجزيرة، وقد طرح حزب العدالة لأول مرة خطط تطالب بتسوية النزاع الذي أدي إلي تقسيم الجزيرة عام 1974م إلي كيانين قبرصي يوناني وقبرصي تركي، ولكن رفض القبارصة اليونانيين للخطة التي طرحتها الأممالمتحدة في هذا الصدد في أبريل 2004 والتي تقضي بتوحيد القبرصيتين، وانضمام الكيان الجديد للاتحاد ،أحرج حزب العدالة التركي كما أصبح يشكل عقبة أمام انضمام تركيا نفسها للاتحاد الأوروبي. و يشي رفض غالبية الدول الأوربية المتتالي لحصول تركيا علي العضوية الكاملة في الإتحاد الأوربي،وتفنن المفوضية الأوربية بضغط من تلك الدول ،في وضع العراقيل والشروط التعجيزية أمام تركيا ،بأن هناك تعمدا أوربيا لرفض الإنضمام التركي إلي النادي الأوربي الذي سبق وأن وصفه المهندس والفقيه الدستوري له ،الرئيس الفرنسي الأسبق فاليري جيسكار ديستان ،بأنه ناد مسيحي وبذلك تكون تركيا بمساعيها الدءوبة لطرق أبواب الإتحاد الأوربي الموصدة في وجهها منذ عقود أربعة ،أشبه بالإله بروميثيوس ،بطل الأسطورة اليونانية الشهيرة ،والذي سولت له نفسه المشفقة علي سكان الأرض من البشر ،أن يخرق القانون السائد في حينها ويهب البشر جذوة من النار ،التي كانت حكرا علي الآلهة دون سواهم ،وهو الأمر الذي أغضب زيوس كبير الآلهة ،الذي قرر معاقبة بروميثيوس بأن يحمل الكرة الأرضية علي ظهره ويصعد بها إلي أعلي قمة في العالم ،غير أن بروميثيوس لا يكاد يبلغ تلك القمة بعد طول معاناة حتي تسقط من علي ظهره الكرة الأرضية فيضطر لمعاودة الكرة مجددا مرات ومرات. ولعل موقف تركيا من الإنضمام للإتحاد الأوربي لقريب الشبه بأسطورة بروميثيوس،فما إن تفي أنقرة بمجموعة من الشروط التي تضعها المفوضية الأوربية من أجل التأهل للحصول علي العضوية الكاملة ،حتي يفاجئهم الأوربيون بحزمة أخري من الشروط الصعبة أو المستحيلة ،التي لا يبرح الأتراك يشكون قسوتها حتي تتعالي أصوات بعض الدول المؤثرة في الإتحاد الأوربي متهمة أنقرة بعدم الجاهزية للإلتحاق بالنادي الأوربي ، وبالتالي طرح المبادرة الخاصة بتدشين علاقات خاصة مع تركيا تكون بديلا عن العضوية الكاملة في الإتحاد الأوربي كالطرح الألماني الفرنسي بشأن الشراكة المميزة علي سبيل المثال،و لما كان هذا الطرح لا يرقي إلي مستوي تطلعات الأتراك ،فإنهم يضطرون إلي العمل مجددا للوفاء بالشروط الأوربية الجديدة ومن ثم يعود بروميثيوس التركي مرة أخري إلي نقطة البداية.