اعترف ان هاتين الواقعتين قد قفزتا الي ذهني عندما وجدتني ابحث عن اجابة لسؤال يتعلق ب "الريادة المصرية" التي مل الكثيرون من الحديث عنها وبرغم ذلك يبدو انها اصبحت اليوم اشبه بالعنقاء التي لا وجود لها. اود ان اتوقف لحظات امام اكلاشيه "الريادة المصرية" الذي روج له المروجون سنين عددا حتي فقد هذا الاكلاشيه المسكين معناه واصبح يثير من الشفقة اكثر مما يثير من اعجاب!! لكنني وقبل ان اخوض في هذه الصفحة الصعبة من تاريخ ثقافتنا ودور مصر الثقافي عربيا واقليميا، اشير الي انني لست من عشاق "جلد الذات" كما قد يسارع البعض باتهامي ظلما وعدوانا ولست متآمرا علي بلد كحال المتأمركين الذين باعوا كل شيء قربانا لصداقة وعمالة مع امريكا والغرب.. ولكنني محب لمصر، عاشق لترابها ونيلها وريفها.. وكل ما هنالك ان فقدان مصر لدورها الريادي ثقافيا او ما اتصوره كذلك هو امر لم يعد بوسع صدري الضعيف احتماله.. وها انا ابوح به علني اجد بين محبي الثقافة والغيورين علي مصر "اسما ومعني" من يبادلني الرأي "اتفاقا او اختلافا". واليكم ما يلي: روت لي السيدة ليلي شهيد سفيرة فلسطين في باريس انها عندما ربط كيوبيد بخيوطه الحديدية قلبها بقلب زوجها الناقد المغربي الكبير محمد برادة كان ذلك في مصر منذ سنوات خلت وداخل اسوار جامعة القاهرة وذكرت انه لصعوبة التحدث بينهما بسبب لهجتها المشرقية ولهجة زوجها المغربية.. كانت اللهجة المصرية هي الملاذ الذي لجأ اليه باعتبار انها اللهجة التي يعرفها "القاصي والداني" في وطننا العربي الكبير. واذكر انني كنت في زيارة عمل في تونس.. وبعد كلام وسلام مع سائق التاكسي طلب مني طلبا "رأيته غريبا في حينه" وهو ان احمل له سلاما خاصا الي الفنان اسماعيل ياسين، الذي تبين لي ان الرجل لم يكن يعرف انه مات "وشبع موت" وحسبه انه يستمتع بأدائه السينمائي الرائع وقفشاته العفوية التي يحبها الكبار قبل الصغار. اعترف ان هاتين الواقعتين قد قفزتا الي ذهني عندما وجدتني ابحث عن اجابة لسؤال يتعلق ب "الريادة المصرية" التي مل الكثيرون من الحديث عنها وبرغم ذلك يبدو انها اصبحت اليوم اشبه بالعنقاء التي لا وجود لها. والريادة التي اعنيها هنا هي "الريادة الثقافية" التي حملتها اللهجة المصرية والسينما المصرية الي كل شبر في ارجاء الوطن العربي الكبير.. والتي باتت اثرا بعد عين "او هكذا يبدو لي" فمصر كانت في السابق قبلة الطلاب "الثقافية" التي يأتون اليها من كل فج عميق يخالطون اهلها، ويعشقون اجواءها ويتنسمون هواءها ويتكلمون لهجتها حتي يكاد يصعب تمييزهم عن اخوانهم المصريين. ولقد اعترف الاديب المغربي "الذي يعيش في باريس" الطاهر بن جلون بهذه الحقيقة عندما قال لي ذات مرة في مكتبه الواقع في شارع "سانجر مان" القريب من جامعة السوربون ان في حياة الادباء العرب محطة اساسية هي محطة مصر والارتحال اليها امر لا مناص منه فإما ان نذهب الي هناك لنخالط اهلها، ونعيش ذات الاجواء التي يعيشها ادباؤها واما ان نرحل اليها عبر الورق والكتابات. واضاف "بن جلون" شارحا رسما كاريكاتوريا نشرته احدي الصحف مفاده ان الاديبين الكبيرين نجيب محفوظ ويوسف ادريس كانا يركبان سيارة تجري بسرعة علي الطريق، ثم فجأة نادي نجيب محفوظ علي السائق "بعد ان رمق الطاهر بن جلون واقفا علي قاعة الطريق" وقال: توقف من فضلك ليركب معانا هذا الرجل.. لانه من اولاد حارتنا! والشيء ذاته اكده لي الروائي اللبناني امين معلوف الذي التقيته عندما فاز بجائزة الجونكور الفرنسية عن روايته "صخرة طانيوس" وهو ما دفعني اليوم الي التساؤل في براءة شديدة: اين الريادة المصرية يا قوم؟ في السابق كانت مصر محطة اساسية في حياة الاديب وطالب الثقافة العربية، فلماذا تغير الحال؟ قديما كان طلاب المعرفة العرب يعرفون جيدا طه حسين "عميد الادب العربي" وعباس العقاد "عملاق الفكر العربي" وتوفيق الحكيم "عميد المسرح العربي" وبقية الرعيل الذي قاد حركة التنوير في مصر والوطن العربي. لكن اليوم تبدل الحال واصبح عسيرا ان نجد بين الشباب العربي من يعرف هؤلاء او من يحفظ اشعار حافظ ابراهيم او احمد شوقي.. والسبب ان هؤلاء المحدثين من الشباب العربي طووا صفحة مصر في حياتهم الثقافية والفكرية منذ اللحظة التي ولوا فيها وجوههم شطر اوروبا وامريكا.. واصبح الطالب منهم يعرف "فولتير" ويجهل في الوقت نفسه "المنفلوطي"، ويقرأ للامريكي "توماس فريدمان" ولا يكترث بما يكتبه "محمد حسنين هيكل" في مصر. يبدو لي "يا قوم" ان مصر قد تنازلت عن موقع الريادة الثقافية.. والدليل علي ذلك ان المغرب تفوقت بمهرجانها السينمائي الذي لم يزد عمره علي خمس سنوات علي مهرجان القاهرة السينمائي الذي يقترب عمره من الاربعين عاما.. اما "دبي" فلقد تربعت بمهرجانها الثاني علي المهرجانين معا.. وهكذا يتبين ان مصر لم تعد تستحق اللقب الذي كان لها طوال السنوات الماضية وهو "هوليوود العرب" ولا شك ان الدراما السورية التي جذبت المشاهدين العرب من المشرق والمغرب والشرق الاوسط هي البرهان الساطع علي ذلك. واذا تذكرنا التقلص الغريب الذي يشهده معرض القاهرة للكتاب عاما بعد عام سواء في ندواته او لقاءاته او معروضاته لتبين ربما بما لا يدع مجالا للشك ان مصر قد خلعت تاج الريادة عن طيب خاطر او لعلها خلعته عنوة، لان الزمن اصبح غير الزمن والطموحات التي كانت سامقة ذات يوم اصبحت دانية في متناول الايدي! برغم ذلك فإن اعجب ما اعجب له هو ان يتحدث نفر عن غزو ثقافي مارسته مصر يوما علي شقيقاتها العربيات سواء باللهجة المصرية المحببة الي نفوس الجميع او بأغنياتها وافلامها التي ملأت الساحات الثقافية وممثليها "وممثلاتها" الذين كانت تتآلف القلوب، كل القلوب حولهم. ماذا جري لمصر الثقافية؟ سؤال برئ اطرحه بمرارة "الابن المحب لبلده" بعد ان حدثني مستشرق فرنسي شاب يقول ان الادب المغاربي المكتوب بالفرنسية اضحي هو البوابة الحقيقية التي تؤدي باتجاه الادب العربي.. وطه حسين الذي كانت بعض كتبه تدرس في معهد اللغات والحضارات الشرقية بباريس استعاض عنه الفرنسيون بدراسة المغربي محمد عزيز الحبابي ومحمد عابد الجابري.. اما الشعراء العرب الذين يعرفهم الفرنسيون فيأتي علي رأسهم الشاعر السوري ادونيس وغياب احمد عبدالمعطي حجازي "زميله في مشوار الغربة الباريسي" عن الساحة الشعرية والادبية كما يعرفها طلاب جامعة السوربون، وعندما يوضع تصنيف عالمي لاهم وأجود 500 جامعة في العالم تغيب تماما جامعة القاهرة وباقي جامعات مصر! اني ابحث يا قوم عن الريادة الثقافية المصرية فمن يدلني علي الطريق.. وهل يتعين ان احمل مصباح ديوجين في جولاتي اليائسة. اين مصر الثقافية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس؟ ولا اريد كلاما انشائيا لمن يريد ان يجيبني، وانما اريد وقائع وتواريخ.. نعم مصر كانت رائدة في السابق اما اليوم فلا ريادة ولا يحزنون. المؤلم ان دولا عربية كثيرة اصبحت يافعة ومنتجة بغزارة وتقدمت اشواطا في طريق الابداع بينما توقفت الحركة في مصرنا او لعلها تباطأت ونسينا القول المأثور من لا يتقدم يتراجع الي الوراء! لست في حاجة اخيرا الي ان يزايد احد علي مصريتي وحبي لبلدي ولكن لا يصح الا الصحيح والنظرة الموضوعية التي تنطلق من الوقائع وتستند الي الادلة والبراهين تؤكد ان الريادة الثقافية المصرية انتهي زمانها وافل نجمها او كاد وبدلا من ان يستشيط البعض غضبا مما اذكر لنشغل جميعا انفسنا بالبحث عن الاسباب، ولا يجوز ان نستسلم لهذا المخدر النرجسي الذي يرانا: افضل الناس واسبق الناس! كانت جامعة القاهرة هي الجامعة الاولي في الوطن العربي، ولم تعد كذلك اليوم وكانت الاذاعة المصرية هي الوحيدة التي يسمعها العرب من الخليج الهادر الي المحيط الهادي واليوم اشتعلت سماوات العرب "بالميديا" من كل لون وصنف وانتشرت الجامعات كالفطريات في ارض العرب، وانفتحت الحدود باتجاه المتوسط وكثرت مواسم الهجرة الي الشمال وكان طبيعيا ان يذبل بستان الريادة. فهل معي الحق ام جانبني الصواب؟