برغم مساحة غزة الصغيرة، إلا أنها أصبحت فجأة نقطة ساخنة، يمكن أن تندلع بسببها حرب إقليمية في أية لحظة. كل الأطراف المعروفة مُمَثلة وحاضرة هناك ومتحفزة للقيام بخطوة ما، لكن الحسابات المعقدة يمكن أن تقود في النهاية إلي أخطاء لم تكن في الحسبان. والسبب يرجع مع تقهقر الأفق السياسي وشحوب مشاريع السلام والتعاون الإقليمي إلي تمدد الشك وعدم اليقين في صدور بلاد مثل مصر وإسرائيل وحماس والسلطة الفلسطينية ومن الأفق القريب إيران وسوريا والولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي. الحادثة الأخيرة عندما اندفع مئات الألوف من الفلسطينيين عبر سياج الحدود عند رفح إلي سيناء كانت نتيجة متوقعة لاحتقانات متتالية لمشاكل بلا حل أدت في النهاية إلي انفجار ترك أثره وصداه علي علاقات مصر مع الفلسطينيين وإسرائيل والولاياتالمتحدةالأمريكية. في محاولة لفهم ما جري وما يجري في منطقة الحدود بين غزة ومصر رجعت إلي تقرير صدر مؤخرا في الأول من فبراير 2008 عن "تأثير ما يجري علي الحدود بين غزة ومصر علي العلاقات المصرية الإسرائيلية"، وهو تقرير تم إعداده لأعضاء الكونجرس الأمريكي بواسطة مكتب خدمة البحوث في الكونجرس، بالإضافة إلي عدد من الشهادات والتقييمات السياسية استمعت إليها مؤخرا في عدد من ورش العمل خارج مصر، حضرها خبراء من المنطقة وخارجها، بما في ذلك باحثون من إسرائيل. لم أكن أتوقع في الحقيقة أن موضوع الحدود بين مصر وغزة قد وصل إلي هذا المستوي من الاحتقان المزمن، وكان من الضروري فهم الموضوع من البداية. لقد ظلت غزة تحت الإدارة المصرية حتي حرب 1967 حين اجتاحت إسرائيل غزة والضفة الغربيةوسيناء والجولان. وفي هذا الوضع المأسوي لم تكن هناك مشكلة حدود بين غزة ومصر بعد أن احتلت إسرائيل سيناء بالكامل. لكن مشكلة الحدود بدأت مع توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في 1979 وانسحاب إسرائيل من سيناء- ماعدا طابا- في إبريل 1982. ومن هذه النقطة بدأت مشكلة الحدود بين مصر وغزة حتي الآن. من بين ترتيبات الحدود بعد الانسحاب الإسرائيلي وفي إطار معاهدة السلام اتفقت مصر وإسرائيل علي خط للحدود بين غزة ومصر يصل عرضه في بعض الأماكن إلي 50 مترا ويقع في الجانبين المصري والإسرائيلي وأعطته إسرائيل اسما كوديا "طريق فلاديلفي"؛ وعلي هذا الشريط الحدودي تم إقامة بوابة عبور بين مصر ورفح الفلسطينية قام بإدارتها علي الجانب الفلسطيني هيئة المطارات الإسرائيلية وكانت غزة وقتها تحت الاحتلال. خط الحدود المتفق عليه كان يقسم مدينة رفح إلي مدينتين، واحدة فلسطينية وأخري مصرية، وكانت الفلسطينية الأكثر عدادا في السكان. وكان رأي شارون وزير الدفاع الإسرائيلي في ذلك الوقت أن تظل رفح موحدة تحت الاحتلال لأن تقسيمها يمكن أن يؤدي إلي حدوث عمليات تهريب بين المدينتين خاصة في غيبة وجود سيطرة إسرائيلية علي الجانب الآخر لكن مصر رفضت فكرة شارون. خلال الفترة من 1982 وحتي اتفاق أوسلو وقيام السلطة الفلسطينية في 1994، قامت العائلات الفلسطينية علي جانبي الحدود بعمليات تهريب عبر أنفاق تم حفرها تحت الأرض، واستخدمتها لتهريب المواد المُدعمة من مصر مثل الوقود والسجائر وقطع الغيار والمخدرات والذهب، وبيعها داخل غزة وتحقيق أرباح عالية. وقد بدأ القلق الإسرائيلي من الأوضاع علي حدود غزة مع سيناء منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولي في بداية 1987 والخوف من استخدام الأنفاق في تهريب السلاح إلي الداخل. ومع الانسحاب الإسرائيلي من غزة، وعودة السلطة الفلسطينية من الخارج في 1994 في إطار عملية أوسلو، زاد القلق الإسرائيلي من احتمالات تهريب السلاح عبر الأنفاق، إما لإهمال من عناصر السلطة الفلسطينية المسئولة عن منع التهريب، أو بمشاركتهم في العملية من أجل المال أو إدخال مزيد من السلاح إلي غزة. ثم جاءت الانتفاضة الثانية فدخلت إسرائيل غزة وأنشأت حائطا من الخرسانة المسلحة بارتفاع 8 أمتار تم مده إلي مسافة 3 أمتار تحت الأرض وتزويده بوسائل للكشف عن أية أعمال أخري تجري تحت الأرض. وفي تلك الفترة وبعد الانتفاضة، اكتشفت إسرائيل ما يقرب من 10-30 نفقا تحت خط الحدود يتم من خلالها تهريب السلاح القادم من اليمن والسودان وسيناء وإسرائيل. ومن أجل ذلك قامت وزارة الدفاع الإسرائيلية بعمليات عسكرية لوقف تهريب السلاح وتدمير الأنفاق كان من أشهرها في 2004 عملية "قوس قزح" التي دُمرت فيها أعداد كبيرة من المنازل الفلسطينية وصلت إلي حوالي 1600 منزل بحجة إقامة منطقة أمنية علي امتداد طريق فلاديلفي. ثم طُرحت أفكار لحفر خندق علي امتداد خط الحدود مع غزة لكن الفكرة لم يتم التحمس لها لأسباب بيئية. طرح شارون بعد ذلك فكرة الانسحاب الإسرائيلي من غزة وإزالة المستوطنات الموجودة هناك في مواجهة معارضة إسرائيلية يمينية. وكان من أكثر المشاكل المثارة كيفية التعامل مع معبر رفح في غيبة الوجود الإسرائيلي. وكان الحل في النهاية تسليم المعبر لبعثة الاتحاد الأوروبي مع وجود مراقبة تليفزيونية تُوصل صورة المعبر إلي الإسرائيليين الذين لهم الحق في التدخل إذا ثارت شكوك لأسباب أمنية. لكن هذا الإجراء لم يحل مشكلة الأنفاق، فبدأت إسرائيل التفاوض مع الجانب المصري لتكثيف نشاطه في منع حفر الأنفاق من الجانب الآخر بعد خروجها من غزة ومراقبة المهربين والقبض عليهم. ووقع بروتوكولا بين الجانبين المصري والإسرائيلي يسمح للمصريين بنشر قوة حرس حدود من 750 جنديا مسلحين بأسلحة خفيفة وعربيات جيب ولم يسمح بنشر مدرعات. وقامت إسرائيل بالفعل بالانسحاب وأخلت المستوطنات الموجودة في غزة 2005، لكن نجاح حماس في انتخابات 2006 ثم إغلاق إسرائيل للحدود في يونيو 2007 بعد استيلاء حماس علي القطاع، لم يمنع الاستمرار في حفر الأنفاق، وبدا أن الجانب المصري لا يقوم بواجبه في منع التهريب ومطاردة المهربين من وجهة النظر الإسرائيلية. وقد ادعت إسرائيل علي مصر أنها وراء حصول حماس علي 20 ألف بندقية، و ستة آلاف صاروخ مضاد للدبابات و 100 طن متفجرات، وصواريخ كاتيوشا، وصواريخ مضادة للطائرات كلها قادمة من مصادر مختلفة. ثم وصل التحريض الإسرائيلي إلي مستوي إرسال شرائط فيديو إلي الكونجرس تتهم القوة المصرية بعدم القيام بواجبها، بل إنها _أي مصر- تساعد في عملية التهريب. ونتيجة لذلك اتخذ الكونجرس الأمريكي قرارا بتجميد جزء من المعونة حتي يصله تقرير من وزيرة الخارجية الأمريكية. وبالفعل أرسلت الولاياتالمتحدة إلي المنطقة روبرت دانين نائب مساعد وزيرة الخارجية، ومارك كيميت نائب مساعد وزير الدفاع، حيث قاما بزيارة المنطقة وأوصيا بتزويد مصر بمعدات متقدمة للكشف عن الأنفاق، وكيفية تدميرها، ودعم أمن الحدود بوسائل أخري أكثر تقدما. وأوصي الرجلان بتشكيل لجنة ثلاثية مشتركة من الجانب المصري والإسرائيلي والأمريكي لبحث كل المشاكل المتعلقة بالموقف علي الحدود، لكن إسرائيل لم توافق علي إقامة هذه اللجنة. ثم سافر لنفس الغرض إلي مصر فريق أمريكي من سلاح المهندسين في ديسمبر 2007. وقد أسهمت البعثة الأوروبية في فتح المعبر لمدة 83 يوما بين 25 يونيو 2006 و 13 يونيو 2007 وفي يناير 2008 سمحت مصر بمرور 2200 فلسطيني من بينهم زعماء لحماس وكذلك عدد من الحجاج. ثم تطور الموقف بين حماس وإسرائيل في معركة متبادلة استخدمت فيها حماس وجماعات أخري الصواريخ في مقابل غارات جوية قُتل فيها كثير من المقاتلين الفلسطينيين بواسطة الغارات الجوية، إلي أن وصل الاحتقان إلي اندفاع الفلسطينيين وتحطيمهم لحاجز الحدود ودخولهم إلي سيناء. وفي كل الأحوال لم تنكر مصر نشاط الفلسطينيين في إقامة الأنفاق وأعلنت طبقا للتقرير الأمريكي أن عدد الأنفاق قد زاد من 20 نفقا في 2004 إلي 25 في 2005 إلي 73 في 2006 إلي 119 في 2007. مصر تطلب حاليا زيادة قوات حرس الحدود في سيناء إلي ضعف العدد الحالي، كما تطلب إحداث تقدم في الملف السياسي لتغيير المناخ والتحرك في عملية السلام. وهناك في إسرائيل من يعترض علي مطلب زيادة عدد قوات حرس الحدود بحجة أن ذلك سوف يرفع مستوي التسليح داخل سيناء خاصة أن ذلك الطلب يمكن أن يتكرر وتتحول سيناء إلي منطقة تكديس للأسلحة قد يضر بالسلام بين الدولتين في المستقبل. وفي المقابل هناك من يري أن طبيعة الأرض وطبيعة الحدود بين مصر وإسرائيل قد لا تصلح معها قوات من البوليس، وأنها تحتاج إلي جنود مدربين علي طبيعة هذه المهمة بتعقيداتها المختلفة. وفي كل الأحوال يجب أن تتعامل مصر مع غزة بوصفها قنبلة ليست محلية ولكنها إقليمية، يحتشد بالقرب منها عدد كبير من القوي في المنطقة والعالم، ومن الواجب أن ننزع منها الفتيل قبل أن تنفجر.