أن المعطيات المتوفرة تشير إلي وجود زهاء 70000 منظمة أهلية عربية،إلا أن هذا العدد الكبير نسبيا لا يتمخض عنه دور فاعل ومؤثر في إصلاح وتنمية المجتمعات العربية،الأمر الذي يمكن إرجاعه إلي عدد من التحديات التي تواجه المنظمات الأهلية العربية وتحول دون أدائها لرسالتها التنموية علي النحو المطلوب. إذا تسني لنا أن نقبل بأن مفهوم المنظمات الأهلية غير الحكومية المعروفة اختصاراً ب NGOsإنما ينصرف بالأساس إلي جملة المبادرات الاجتماعية الطوعية التي تنشط في مجالات مختلفة كالخدمات الاجتماعية والمساعدات الخيرية إضافة إلي الاهتمام بشئون البيئة والتنمية والتدريب المهني وتأهيل المرأة وتنمية المجتمعات المحلية والدفاع عن حقوق الإنسان، وهي المنظمات التي تتموضع بين الدولة من طرف والقطاع الخاص من طرف آخر بحيث تتميز كما هو واضح من تسميتها بالطوعية الاستقلالية، وعدم السعي لتحقيق الربح أو الخدمة الشخصية للأعضاء، فإنه يمكن الإدعاء بأنه كان لمجتمعاتنا العربية نصيب،لا بأس به، في مثل هذا اللون من النشاط منذ أوائل القرن التاسع عشر،حيث اضطلعت ما يمكن نعتها بمنظمات العمل الأهلي العربية بأدوار رائدة في مجالات تقديم خدمات الرعاية الصحية والتعليمية والمساعدات الاجتماعية والأعمال الخيرية للمواطن العربي. وبمرور الزمن،ورغم التقلبات السياسية والاقتصادية القلقة، استطاعت تلك المنظمات أن تحافظ علي قسط غير يسير من هذا الدور،حتي اتسع نشاطها خلال العقود الثلاثة الأخيرة ليطال مجالات التنمية المحلية والدعوة لقضايا المرأة والطفل وحقوق الإنسان وحماية البيئة والمستهلك، كما اتجهت لمشاريع مكافحة الفقر والبطالة عن طريق القروض متناهية الصغر، وتدريب وتأهيل الشباب للحصول علي فرص العمل وإقامة المشروعات الصغيرة.غير أنها بقيت علي استحياء تغازل النشاط السياسي والدفاعي مترقبة تسامح الأنظمة العربية معها وغضها الطرف عن خوض المجتمع المدني العربي غمار هذا الدرب الشائك. وتخريجا لذلك، لم تكن تلك البداية القوية للعمل الأهلي العربي لتضمن تبلور نشاط أهلي أو مجتمع مدني عربي قوي يجعل من المؤسسات الأهلية العربية واحدة من بين آليات تطوير الممارسة الديمقراطية ووسيلة لتشجيع المشاركة الشعبية في عملية التنمية الشاملة والمستدامة،التي تتوق إليها بلداننا. فعلي الرغم من أن المعطيات المتوفرة تشير إلي وجود زهاء 70000 منظمة أهلية عربية،إلا أن هذا العدد الكبير نسبيا لا يتمخض عنه دور فاعل ومؤثر في إصلاح وتنمية المجتمعات العربية،الأمر الذي يمكن إرجاعه إلي عدد من التحديات التي تواجه المنظمات الأهلية العربية وتحول دون أدائها لرسالتها التنموية علي النحو المطلوب. ومن بين هذه التحديات ما يخص البيئة المحيطة بالعمل الأهلي العربي، ومنها ما يتعلق بالجمعيات الأهلية العربية ذاتها.أما الفئة الأولي،فتتمثل في غياب الوعي والاهتمام العربيين بأهمية وجدوي العمل التطوعي وتقلص مساحة المبادرة لدي المواطن العربي بجريرة تآكل ثقته في الأنظمة الحاكمة والعمل المؤسسي من جهة وعدم استعداده للمشاركة في العمل التطوعي بسبب الفقر وشظف العيش من جهة أخري . أما ما يخص الجمعيات الأهلية العربية ذاتها،فيتجلي في ضعف البناء المؤسسي لتلك الجمعيات، وافتقارها لمصادر التمويل الآمنة علي نحو يجعلها أسيرة للشخصانية وغياب الصف الثاني في أغلب الحالات. وتأتي من بعد ذلك قضية استقلال المنظمات الأهلية، سواء بالنسبة لعلاقتها بالدولة والقوانين التي تنظم نشاطاتها، أو بالنسبة لاستقلالها إزاء مصادر التمويل عموما والأجنبية منها بشكل خاص وما تثيره من تحفظات وهواجس. وتنجم مشكلة الاستقلالية في وجهها الأول المرتبط بالدولة عن فهم ملتبس لدور التنظيمات الأهلية في المجتمع، علاوة علي الفصل المبالغ فيه في فهم التنمية الشاملة بين الجانب الاقتصادي والاجتماعي من جانب، وبين الجانب السياسي من جانب آخر وما يستتبعه ذلك من توجس من قبل الأنظمة العربية إزاء أي دور سياسي أو دفاعي للجمعيات الأهلية. وما من شك في أن هذا المسعي الحكومي يخلق معضلة حقيقية بشأن العمل الأهلي،خصوصا وأنه من المستحيل علي المجتمع المدني ألا يتعاطي السياسة،التي تتصل من قريب أو بعيد بأي عمل إجتماعي أو نشاط خيري .فمع أن انخراط تنظيمات العمل الأهلي في النشاط السياسي المباشر ليس ضرورياً وربما لا يكن مطلوباً في حد ذاته كغاية، إلا أن العمل في ميدان التنمية والانخراط في القضايا التي تهتم بالشأن العام هو بطبيعته نشاط سياسي بالمعني الواسع،ومن ثم يجدر بالأنظمة العربية الحاكمة، إذا ما أرادت للنشاط الأهلي أن يتجاوز القيام بأدوار تنفيذية وفنية بحتة باتجاه المشاركة في رسم السياسات التنموية والإشراف علي سيرها وتنفيذها،أن لا تخلق سدودا منيعة للحيلولة دون ولوج المجتمع المدني العربي إلي حظيرة العمل السياسي. وأما الشق الثاني من قضية إستقلالية المنظمات الأهلية العربية فيتمثل في الجوانب المالية وصعوبة الحصول علي التمويل وما ينجم عنه من التزامات وتدخلات قد تنال من استقلالية القرار داخل هذه المنظمات وتجعلها ملزمة بتبني السياسات والخطط والأولويات المقترحة للجهات المانحة والممولة لنشاطاتها،والتي قد تتعارض في أحيان كثيرة مع الأجندة الوطنية لتلك المنظمات،خصوصا إذا ما تم ربط التدفق الأجنبي للتمويل والمساعدات بمجالات معينة دون غيرها، بما يتماشي وهوي المانح الأجنبي وأولوياته علي حساب مصالح وحاجات المجتمع المحلي. ولا يقل مطلب تحقيق المؤسسية في عمل المنظمات الأهلية أهمية عن مطلب استقلاليتها . فمن الصعب تصور عمل هذه المنظمات في القرن الحادي والعشرين وفق منطق النوايا الحسنة والجهود الخيرة علي أهميتها وضرورتها. ونعني بتحقيق المؤسسية العمل وفق قواعد القوانين والفصل بين الشخص والوظيفة، إضافة لضمان دوران السلطة وتدوير النخبة داخل إدارة كل منظمة، وما يرتبه ذلك من ضمانات لتحقيق الممارسة الديمقراطية،سواء علي مستوي صنع سياسات المنظمات أو علي صعيد العمل الميداني والتنفيذ. وعلاوة علي ذلك،يستوجب تفعيل نشاط العمل الأهلي العربي اتخاذ حزمة أخري من الخطوات، يتصدرها نشر ثقافة التطوع عبرإعداد برنامج لنشرها وتنمية الشعور بالانتماء وتشجيع المشاركة الشعبية، ويمكن في هذا الصدد مساندة مبادرة الاتحاد العام للجمعيات والمؤسسات الأهلية والاتحادات الإقليمية لإعداد وتنفيذ برنامج قومي لإحياء ثقافة التطوع ودعم روح الانتماء ينفذ بالتعاون مع وزارات الشئون الاجتماعية والاتصالات والإعلام والشباب في العالم العربي. وفي هذا السياق،تبرز أهمية تنويع مصادر تمويل المنظمات الأهلية العربية، وذلك عبر اجتذاب دعم القطاع الخاص وتفعيل المصادر التقليدية للتمويل كالزكاة والصدقات والأوقاف والتبرعات المختلفة، فضلا عن إعطاء أولوية لتنمية مصادر التمويل من إمكانات المجتمعات المحلية، وقيام المنظمات الأهلية بإجراء دراسات الجدوي الاقتصادية والاجتماعية لمشروعاتها بما يضفي عليها طابع الشفافية والمصداقية وتبدو الحاجة ملحة أيضا لإعادة النظر في الإطار القانوني المنظم للعمل الأهلي العربي، فبالرغم من أن غالبية القوانين واللوائح التنفيذية العربية في هذا الصدد قد مثلت نقلة نوعية لا يمكن التقليل من شأنها للإطار التشريعي المنظم للعمل الأهلي في تلك البلدان خلال السنوات القليلة الماضية، إلا أن المجال مازال مفتوحا لتحسين المناخ المؤسسي والإداري لتدعيم الثقة وبناء علاقة الشراكة بين الجمعيات والمؤسسات الأهلية وأجهزة الدولة من ناحية، وتشجيع الممارسة الديمقراطية من ناحية أخري، ورصد أي ملاحظات أو سلبيات تلزم لتطويره والتشاور حول هذه الاقتراحات بهدف إتخاذ خطوة إضافية لتحسين المناخ التشريعي و تفعيل دور القطاع الأهلي في عملية التنمية،لاسيما وأن إتساع هامش حرية التعبير وعلو نبرة الإصلاح والتغيير الديمقراطي في الخطاب السياسي العربي تفرض علي الحكومات العربية النظر بمزيد من الإهتمام والتقدير للمجتمع المدني في بلادنا،خصوصا بعد أن أضحي شريكا إستراتيجيا حيويا للدول والحكومات في عملية التنمية و صنوا مهما لها في مسيرة التحول الديمقراطي.