غدا سوف يأتي الرئيس الأمريكي جورج بوش إلي مصر، وحتي وقت كتابة هذه السطور فإنه كان مقررا أن يقابل الرئيس مبارك في مدينة شرم الشيخ لبضع ساعات تكون هي ذروة رحلة طويلة إلي المنطقة شملت إسرائيل والسلطة الفلسطينية والكويت والإمارات والسعودية. وهذه الرحلة ينطبق عليها المثل الأمريكي الشهير وهو أنه "من الخير أن تأتي متأخرا من ألا تأتي علي الإطلاق". فقد جاء جورج بوش إلي الشرق الأوسط بعد سبعة أعوام من ولايته، وقبل عام واحد من رحيله، وبعد أن دقت بالفعل دقات عام الانتخابات الأمريكية بعد أن أصبحت الانتخابات التمهيدية تجري مبكرة شهرا كاملا عما كان معتادا من قبل. وفي الحقيقة فإن هذه العودة المتأخرة قد دفعت كثيرين لرفض الزيارة كلها واعتبارها جارية في الوقت الضائع حيث لا يمكن تغيير نتيجة السياسة الأمريكية الكارثية في الشرق الأوسط في هذا الوقت المتأخر. وبالطبع كانت هناك دوما أسباب أعمق من مجرد الزمن والتوقيت لرفض زيارة جورج بوش إلي المنطقة عامة ومصر خاصة لها علاقة بمجمل سياساته الفاشلة منذ احتلال العراق وحتي مشروعه الحقيقي أو الوهمي للتغيير الديمقراطي في الشرق الأوسط. وربما حتي كانت الكراهية لجورج بوش وإدارته راجعة لأسباب شخصية بحتة؛ فالرجل برع _خاصة في ولايته الأولي- في اختيار جماعة ممن لا يعرفون الكثير عن تقاليد العلاقات الدولية ومعرفة أقدار الدول. وبالتأكيد فإن جماعة شيني ورامسفيلد وولفويتز وفيث لم يتركوا علاقة تاريخية للولايات المتحدة إلا أحرقوها بالكلمة أو بالفعل. ولكن رغم ذلك كله، وعلي أهميته، فإن زيارة جورج بوش للمنطقة وسعيه نحو تسوية الصراع العربي- الإسرائيلي يظل أمرا جديرا بالاهتمام المصري. وربما يعيننا كثيرا أن نغمض أعيننا ولو لحظة قصيرة ونتخيل أن جورج بوش لم يطلق مبادرته في 16 يوليو الماضي، ونتصور كيف سيكون الحال في الشرق الأوسط ساعتها. ولمن لا يتذكر فإن آخر المشاهد قبل ذلك مباشرة كان انقلاب حركة حماس علي السلطة الوطنية الفلسطينية واستقلالها بقطاع غزة وبدء نوع من الحرب الأهلية الفلسطينية التي مات فيها قرابة 600 فلسطيني سال فيها الدم الفلسطيني علي يد الفلسطينيين هذه المرة. وكان ذلك الوضع حريا به أن يبدأ مواجهة عسكرية مرة أخري مع إسرائيل لأسباب متنوعة تضع المنطقة كلها، والجوار المصري في ظل سلسلة من الأزمات المتتابعة. ولمن نسي فإن عليه أن يرجع قبل عام حين لم يكن هناك مبادرة أمريكية لكي يجد حرب إسرائيل مع حزب الله وهي التي كانت المقدمة الطبيعية للأزمة الداخلية اللبنانية التي نعيشها حتي اليوم، ولم تبدأ في الحلحلة مؤخرا إلا بعد أن بدأت مبادرة بوش توضع موضع التطبيق في أنابوليس وما بعدها. الصراع والأزمات في المنطقة إذن مرتبطة بالحركة الأمريكية وهي حركة تعود جذورها إلي نهاية عام 2006 عندما فقد الحزب الجمهوري أغلبيته في الكونجرس وبدأت عملية مراجعة للإستراتيجية الأمريكية في المنطقة نجمت عنها استراتيجية جديدة في العراق مرتبطة بالسعي إلي تهدئة مع إيران وسوريا ومعها السعي من أجل حل الصراع العربي- الإسرائيلي. هذه الاستراتيجية الجديدة بدأت تأتي أكلها علي مسارح متعددة، ورغم استمرار العنف في العراق فإن معدلاته هبطت بنسبة 76%؛ ورغم استمرار التوتر في العلاقات الإيرانيةالأمريكية فإن مجلس المخابرات الأمريكي اعترف بأنه لا يوجد "حاليا" برنامج نووي عسكري إيراني؛ ورغم التوتر في العلاقات الأمريكية السورية فقد حضرت سوريا اجتماع أنابوليس ووجدت الجامعة العربية حلا للأزمة اللبنانية. وعلي أي الأحوال، وبغض النظر عن تطورات الصراع العربي _ الإسرائيلي أو التسوية الفلسطينية الإسرائيلية، فإن صانع القرار المصري لا يمكنه تجاهل المصالح المصرية الخالصة. صحيح أن زيارة جورج بوش لمصر ليس مرحبا بها من قبل الرأي العام المصري، وهناك في دوائر صنع القرار المصري من يريد الانتظار حتي يأتي الرئيس الأمريكي القادم للتعامل معه بصدد قضايا المنطقة والعلاقات الثنائية بين البلدين. ولكن مشكلة هذا المنطق هي أنه لا يوجد ما يضمن أن يكون الرئيس القادم أفضل حالا من الرئيس الحالي؛ وربما وجب تعلم الدرس من تجربة الرئيس الحالي حيث كان هناك من همس في أذن الرئيس ياسر عرفات لكي يخبره أن جورج بوش سوف يكون أفضل حالا من كلينتون بسبب علاقات والده السابقة مع قادة المنطقة، وكان ذلك سببا في عدم وجود موقف إيجابي فلسطيني مما عرف بمقاييس كلينتون وهي التي يحاول الطرف الفلسطيني الآن الاستناد إليها بينما تحاول إسرائيل التملص منها. وما لا يقل أهمية عن ذلك هو أن العلاقات المصرية الأمريكية كانت موجودة قبل جورج بوش وسوف تظل باقية بعده، ومن ثم فإن ما يتم التوصل إليه الآن سوف يكون هو أساس المرحلة المقبلة. ولمن لا يعلم فرغم أن فترة رئيس جورج بوش لم تكن فترة سعيدة في العلاقات المصرية الأمريكية إلا أن هذه العلاقات فيما عدا أبعادها السياسية والإقليمية كانت إما فترة تقدم في العلاقات أو أنها ظلت علي حالها ووتائرها السابقة رغم ما اعتراها من توترات وأزمات. فالولاياتالمتحدة لم تعد فقط الدولة الأولي في التبادل التجاري مع مصر بإجمالي 4.1 مليار دولار؛ وإنما أيضا أن نصيب مصر من هذا الإجمالي آخذ في التزايد بسبب زيادة الصادرات المصرية إلي أمريكا التي ارتفعت من 386 مليون دولار عام 2002 إلي 1189 في عام 2006. كذلك فإن الولاياتالمتحدة زادت استثماراتها في مصر، وهي دولة الاستثمارات الأولي في مصر من غير الدول العربية إذا ما حسبنا مجال البترول، أما إذا استبعدناه فهي الدولة الثانية بعد المملكة المتحدة. ورغم كل ما جري خلال السنوات السابقة فقد استمر تدفق المعونات الأمريكية دون أية قيود حتي هذا العام حتي بلغ إجمالها الاقتصادي والعسكري قرابة 65 مليار دولار؛ وحتي مناورات النجم الساطع، وعلاقات التصنيع العسكري في مجال الدبابات وغيرها ظل مستمرا دون انقطاع بل وأحيانا حدثت به زيادة ملموسة في الكم والكيف أو كليهما معا. العلاقات المصرية- الأمريكية إذن تقوم علي قدمين، واحد منها يخص العلاقات مع القضية الفلسطينية وأمن المشرق العربي وأمن الخليج من ناحية، والعلاقات الثنائية البالغة الأهمية لمصر من ناحية أخري. وربما كان استمرار كليهما علي الوتيرة التي سارت عليها خلال الأعوام السابقة دليلا علي حكمة القيادة المصرية وقدرة الرئيس مبارك علي التعامل مع مصالح متناقضة وأوضاع متغيرة تؤثر فيها عناصر لا نتحكم فيها. وربما يكون كل ذلك مفهوما لدي بعض من النخبة السياسية والاقتصادية المصرية، ولكنه بالتأكيد ليس مفهوما في النخبة الإعلامية والسياسية المصرية التي كانت زيارة جورج بوش هي موسم الهجوم علي الولاياتالمتحدة والعلاقات المصرية الأمريكية دون فحص جدي لتعقيداتها، والأهم مدي علاقتها بالمصالح المصرية المباشرة.