في أحد المقار العسكرية البريطانية في قندهار، ثمة جدارية أنيقة للريف الأفغاني، وقد كتبت العبارة التالية أسفلها: "من الأفضل أن تجعلهم ينجزون الأمر بأنفسهم، ولو بغير كمال. إنها بلادهم، وطريقتهم، ووقتنا هنا قصير". لو كان حياً، فإن صاحب العبارة، تي. إتش. لورانس (العرب) ربما يغص، وينزعج من نشر مثل هذه الثقافة "اللورانسية" بين الرجال المقاتلين وقادتهم في أفغانستان والعراق. وكيما نوجز ما قاله مؤلف آخر غالبا ما يقتبس، فإن الوقت قد حان لدفن لورانس، وليس لإطرائه. بما ينطوي علي نذير للولايات المتحدة، وجدت العبارة نفسها أيضا في موقع آخر هزيمة كبيرة لحقت بأمريكا علي يد المتمردين، إذ يذكر جيمس فتنون وجون بيلجر في تقريرين منفصلين عن سقوط سايجون عام 1975، كلاهما شاهداها مكتوبة ومؤطرة علي جدار السفارة الأمريكية المهجورة. ويتساءل المرء كم مضي علي وجودها هناك من دون أن ينطوي ذلك الوجود علي أي فائدة. اليوم تجري إعادة نشر "اللورانسيات" علي أيدي الجميع، بدءاً من قائد القوات الأمريكية في العراق الجنرال ديفيد بترايوس وحتي ضباط الميدان، و"المتابعات" المنشورة علي المواقع الالكترونية المعادية للتمرد. وطبقا ل "جيريمي ولسون"، واضع سيرة حياة لورانس، فإن العبارة ربما كانت جزءاً معدّلاً من المادة 15 من مواده "ال 27" التي نشرت في "النشرة العربية" بتاريخ 20 أغسطس 1917، والتي قصد منها أن تكون دليلا للضباط البريطانيين الذين كانوا يحاربون في صفوف رجال القبائل العربية. وتقول العبارة الأصلية: "لا تحاول أن تفعل الكثير بيديك أنت، إذ من الأفضل أن يفعلها العرب بغير كمال علي أن تفعلها أنت بكمال. إنها حربهم هم، وأنت موجود حتي تساعدهم، لا أن تربحها لهم". واليوم، يبدو الاستخدام الليبرالي لأقوال لورانس المأثورة، بما في ذلك تلك التي ربما لم ينطقها هكذا بالضبط- يبدو وهو يجعلك تتساءل: كم من الناس الذين يقتبسونه قرأوا أعماله أو استوعبوا السياق التاريخي لأفكاره. ذلك أن لورانس لعب في الحرب العالمية الأولي دور متمردي اليوم، بينما في العراق وأفغانستان، فإن الولاياتالمتحدة وحلفاءها هم الذين يلعبون اليوم دور الإمبراطورية العثمانية أيام الحرب العالمية. لقد أشار الجنرال بترايوس إلي أهمية نصيحة لورانس "لا تحاول أن تفعل الكثير بيديك أنت" بالنسبة لأولئك الذين يقاتلون في العراق. لكن لورانس كان يتحدث عن امتلاك العرب لحرب عصابات، والتي اختاروا هم بأنفسهم خوضها ضد الأتراك. أما في العراق، وبغض النظر عن المدي الذي أصبحت فيه "حربهم"، فإنها تظل حرباً بادر التحالف إلي خوضها. وقد عني خوضها "علي طريقتهم" في الكثير من الحالات رجال الميليشيات، وفي بعض الحالات فرق الموت. كما أنها ليست مسألة إخفاق العراقيين في تحمل مسئولية حل مشكلاتهم الخاصة، كما يقول الكثير من المسئولين الأمريكيين بتذمر. إن المشكلة الرئيسية أي تدمير الدولة المركزية العراقية نجمت بشكل رئيسي عن العمليات التي نفذتها قوات التحالف، والتي أفضت إلي تفاقم النزاعات الأهلية والسياسية، والي أن يتم حل هذه المشكلات، فان المسئولية الرئيسية لتوفير شكل من الأمن، تقع، لأسباب أخلاقية وقانونية وعملية، علي عاتق الولاياتالمتحدة وحلفائها. علي نحو مشابه، كتب احد مستشاري الجنرال بترايوس السابقين، وهو ديفيد كيلكولين، معبراً عن تحمسه لثورة رجال القبائل السنة علي القاعدة مؤخرا، ليقول: "يبدو أن بناء تحالفات محلية وتكوين شراكات وشبكات موثوقة مع الجماعات التي تشعر بالخطر يشكل احد مفاتيح النجاح، وربما يكون هذا هو ما دار في خلد "تي إي لورانس" عندما كتب أن فن حرب العصابات مع القبائل العربية استند إلي بناء سلم من القبائل للصعود نحو تحقيق الهدف". يقر السيد كيلكولين بان التحول إلي توظيف استراتيجية تركز علي قبائل العراق إنما يسير بشكل مخالف لبناء المؤسسات القومية، لكنه يظل يتمسك بقشة لورانس علي أي حال. ولعل من الصعب الشكوي من أن القبائل السنة تهدر طاقة مميتة علي القاعدة بدلا من قوات التحالف، ومع ذلك، يبقي هناك خطر كامن في مثل هذا الحماس الرومانسي. إن من غير المحتمل علي الإطلاق أن تتسامي القبائل أو الميليشيات علي المصالح الضيقة. ولعل تشكيل تحالفات معها إنما هو سلم لا يقود "إلي الهدف"، وإنما إلي فشل الدولة. وفي أفضل الحالات، ستكون النتيجة شبه واحات مستقرة في صحراء عدم الاستقرار القومي. أما في أسوأها، فإنها ستفضي إلي إدامة عراق ممزق وممزِّق. يري قادة ومفكرو الائتلاف الثورة القبائلية علي أنها بمثابة بشير خير، وعلي نحو يبرز المدي الذي انزلقت إليه الطموحات الأمريكية لتتحول من إعادة تعمير العراق إلي الهرب منه، لكن علي العراقيين والمنطقة علي حد سواء أن يعيشا مع التبعات التقسيمية النافية للاستقرار، والناجمة عن هذا التوجه، والي وقت طويل بعد مغادرة القوات الأمريكية. إن هذا لا يعني القول بأن كلمات لورانس قبل نحو 85 عاما لا تساعد اليوم بكليتها، فقد تضمنت مواده ال 27 بعض النصائح الجديدة. لقد طرح، علي سبيل المثال، فكرة أن "البداية السيئة يصعب التكفير عنها"، كما قدم ما يمكن أن يكون أفضل توصية علي الإطلاق فيما يخص مكافحة التمرد المعاصر: "تمسك بقوة بروح الدعابة لديك". لكن المواد السبع والعشرين تتضمن أيضا نصيحة تجاهلها فيما يبدو بعض أتباع لورانس المعاصرين، إذ كتب لورانس في مقدمته عن المواد انه لم يقصد منها أبدا أن "تطبق من دون تغيير في أي وضع بعينه". ولا شك في أننا نسيء إليه وإلي أنفسنا نحن أيضاً عندما نستخدم كلماته بلا تفكير وننزعها من زمانها، فقط لأنها تبدو، علي السطح، وهي تناسب حاجاتنا الخاصة.