جمعتني صداقة مع موظف حكومة محدود الدخل، وحين دخلت الأعياد أصبح لائقا أن نستريح بضعة أيام من نكد الزوجات والأولاد حشرنا سيارتنا القديمة بتجهيزات رحلة فقيرة، بصل وسكر وشاي وخيار وفسيخ مع أربعين "رغيف بلدي" وجركن ماء كبير، واتجهنا إلي وسط سيناء قاصدين زيارة بعض الأصدقاء في أرض التيه. وقفنا علي الشاطئ الغربي لقناة السويس، نطرح البصر علي الرمال الصفراء في الشرق ونسترجع تاريخنا مع الأرض والناس والجبال باتساع كل الأفق، في الزمن القديم عبر أرض سيناء فاتحين ورسلا وغزاة وتجار مخدرات، وفي الزمن الحديث نرسم علي أرضها خطوات نتقدم بها نحو المستقبل. عند مدخل نفق الشهيد أحمد حمدي تحت قناة السويس، كان علينا أن ندفع رسوما لتعبر سيارتنا النفق وندخل سيناء، وحين مددت يدي بالرسوم أعطيها للموظف المختص هاجت في ذاكرتي حواجز تصنعها حكومات متتالية للفصل بين سيناء وبين بقية مناطق مصر، ففي عهود مضت لم يكن لمصري أن يدخل سيناء دون موافقات تصدرها جهات أمنية، واليوم أصبح الأمر أكثر تعنتا نفسيا حين تفرض الحكومة رسوما للعبور في النفق، صحيح أن تلك الرسوم تمثل إيرادا ربما يستخدم في الصيانة، لكنها إيرادات دولة يمكن تعويضها من مصادر أخري دون أن نلح علي ذاكرتنا الجماعية بتلك الفواصل بين بقاع الوطن الواحد. دخلنا سيناء قاصدين الاتجاه شرقا علي طريق اسفلتي في وسط الصحراء، يبلغ طوله ثلاثمائة وخمسين كيلومترا يبدأ من نفق أحمد حمدي ويمر بمدينة نخل وسط صحراء التيه وينتهي عند نويبع علي خليج العقبة، انه طريق سفر حجاج ومصريين عاملين في دول الخليج، ويمتد الأفق مساحات شاسعة علي صحراء يسكنها حوالي خمسة آلاف نسمة من أهل سيناء بينهم موظفون قادمون من بقية أنحاء مصر. وكان زادنا من البصل والخبز والفسيخ كافيا لأن نعيش حياة أهل المنطقة، فبعيدا عن المكاتب الحكومية واستراحات الطريق، يعيش البدو من أهل وسط سيناء حياة جافة غلبا، تنقصهم كثير من الخدمات في مجالات الصحة والتعليم والنشاط الاقتصادي، يحيط بهم فقر التجهيزات المادية والبشرية، وتلفهم وقائع الأمية والفقر والأمراض. والأكثر غلبا من البدو هم الموظفون الحكوميون، حياتهم مأساة حقيقية، يعانون نقصا في الماء والمواصلات والسكن ووسائل الترفيه، حياتهم جافة لا تشفع فيها الزيادة النسبية في مرتباتهم التي قد تصل إلي ثلاثة أمثال مرتبات زملائهم في وادي النيل، ولا تسلم بيوتهم وأسرهم من نظام عمل يقوم نظريا علي بقاء الموظف بعيدا عن أهله يعيش في المنطقة لمدة ثمانية عشر يوما متصلة، مقابل اثني عشر يوما إجازة كل شهر، موظفون يقضي معظمهم سنوات طوال في صحراء التيه دون قدرة علي تغيير المكان أو العلاقات الاجتماعية. إن بقاء وسط سيناء علي وضعه الحالي يترك فرصا لانتشار كثير من الانحرافات بين السكان وموظفي الحكومة العاملين معهم، ويصنع بيئة جاهزة لتفريخ متطرفين عقائديا يصيبهم هوس ديني، منحرفين في نشاطهم الاقتصادي، مرضي نفسيين معزولين في سجن واسع الأرجاء. سيناء ارض الفيروز والفحم والبترول والتيه، تحتاج إلي إمكانيات مادية وجهود علمية ليسكنها بشر أصحاء نفسيا وبدنيا واجتماعيا يصنعون تقدما حضاريا علي أرض مصر. وفي طريق العودة كان علينا أن نتجرع مشقة دفع رسم آخر لعبور قناة السويس فوق كوبري مبارك، صحيح أن الكوبري عمل حضاري وإنجاز علمي كبير أنشئ علي ارتفاع أكثر من مائة متر فوق سطح الماء لكن رسوم العبور جعلتني أشعر بعزلة سيناء من جديد وأخشي أن تظل أرض الفيروز مجرد بؤر سياحية يستجم فيها كثير من محدثي النعمة وقليل من الصالحين.