أثارت تجربة حزب العدالة والتنمية التركي وما حققه من نجاحات سياسية وإنجازات إقتصادية ملفتة علي الصعيدين الداخلي والخارجي حفيظة الكثيرين في بلاد العرب والعجم لطرح فكرة تأسي حركات الإسلام السياسي المعتدلة في بلادهم،ومن أبرزها جماعة الإخوان المسلمين ، بتجربة حزب العدالة التركي،الذي قوبلت تجربته بترحاب غربي واسع النطاق. غير أنه قد غاب عن فكر دعاة هذا الطرح أن التجارب السياسية لا تستنسخ ،فلكل تجربة خصوصيتها،ولكل بيئة سماتها. فكم هي متعددة الإختلافات بين حزب العدالة والتنمية التركي وجماعة الإخوان المسلمين ،والتي يكمن أهمها في أن الأخيرة تتخذ من الدين مرجعية ومنهاجا ووسيلة لإستجداء دعم الجماهير وتأييدهم، كما يحتل الخطاب الإسلامي غالبية مفردات خطابهم السياسي، وتفتقد الجماعة لبرنامج سياسي واضح يحدد موقف الجماعة من قضايا عديدة غاية في الأهمية كالأحزاب السياسية،المرأة ،الأقليات الدينية،الديمقراطية وتداول السلطة وفقا للمفهوم الغربي، الحريات الفردية في مجالات الفكر ،العقيدة والإبداع . أما حزب العدالة والتنمية فقد أعلن مرارا أنه حزب يمين وسط ليبرالي ديمقراطي ،كما أكد زعيمه أردوغان أنه يسير علي خطي أتاتورك ويؤيد توجهات تركيا الأوربية والتحالف مع أمريكا وإسرائيل . أي أنه حزب براجماتي حتي النخاع. ونص البرنامج الانتخابي لهذا الحزب علي أنه يرفض استغلال القيم الدينية المقدسة أو استخدامها لتحقيق أهداف سياسية ويعتبر أن المواقف والممارسات التي تميز بين المواطنين نتيجة تفضيلاتهم الدينية معارضة للديمقراطية ومناقضة لحقوق وحريات الانسان. وفي هذا السياق،تؤكد نيولفرغولي متخصصة علم الإجتماع والحركات الإسلامية في تركيا أن حزب العدالة والتنمية ذا الجذور الإسلامية توجه نحو اليمين الديمقراطي وهو يجسد بحق تحولا وتطورا جوهريين لحركة إسلامية راديكالية .كما يشير جون ماركو،الباحث الفرنسي بمعهد الأناضول للدراسات في إسطنبول أن حزب العدالة والتنمية تمكن من الإبتعاد عن قاعدته الإنتخابية الأصلية الإسلامية ليجذب عددا أكبر من الناخبين ببرنامجه السياسي ،وإنخرط الحزب في النظام السياسي وودع مرجعيته الدينية.فسياسات حزب العدالة في الداخل والخارج لم تختلف كثيرا عن سابقاتها من الحكومات العلمانية ،إلا في محاولة التخفيف من غلواء التطرف العلماني المناهض للأديان. كما أن الحزب يرفض نعت خصومه له بالحزب الإسلامي الراديكالي الأصولي ويفضل تسمية الحزب المحافظ شأنه شأن أحزاب محافظة عديدة في الغرب،بحيث يكون الإلتزام الإسلامي لحزب العدالة منصبا علي الأمور الثقافية والحضارية دون الأمور السياسية والإجتماعية التي تؤطرها المباديء العلمانية الأتاتوركية. وقد إستطاع حزب العدالة تحقيق نجاحات سياسية مبهرة إستنادا لخطابه السياسي الليبرالي المعتدل، حيث حصد 47% من أصوات الناخبين في الإنتخابات البرلمانيةالمبكرة التي أجريت مؤخرا،بينما حصل حزب السعادة الإسلامي علي2% فقط من الأصوات بسبب تبنيه خطابا تقليديا مؤدلجا ، ركز علي رفض العلمانية والدعوة للسماح بإرتداء الحجاب ومعاداة الغرب وإسرائيل. علي النقيض من ذلك، يختزل الإخوان المسلمون ي برنامجهم في أن الإسلام هو الحل ويريدون تطبيق الشريعة الإسلامية في كل شيء بما في ذلك السياسة. في حين أن حزب العدالة يؤمن بالديمقراطية ويمارسها ويحترم قواعدها في الوقت الذي لا يؤمن الإخوان المسلمون بالديمقراطية الغربية لكنهم لا يتورعون عن إستخدامها كمطية للوصول إلي السلطة والمواقع الحكم والنفوذ. وفيما يميل الإخوان المسلمون إلي الإستغراق في قضايا دينية وثقافية معقدة كتطبيق الشريعة الإسلامية وغيرها من الأمور الحساسة والمثيرة للجدل ،إتسم أداء حكومة العدالة بحسن ترتيب الأولويات وبالنفس الطويل_ مثلما وضح جليا في موقفها من قضية الحجاب، فرغم قول أردوغان ذات مرة" إن الحجاب هو شرفنا_",_ وبالرغم من أن زوجته محجبة وكذلك زوجات أغلب قيادات حزبه_,_ فإنه لم يتخذ أي إجراء لإلغاء قرار منع المحجبات من دخول الجامعات والمصالح الحكومية، _كما أرسل ابنتيه المحجبتين لتدرسان في جامعات الولاياتالمتحدة تلافيا لأن يدخل حرباً طاحنة لكي يؤمن لهما دخول الجامعات التركية التي تمنع الحجاب، بل إن حزبه رشح بعض غير المحجبات في الانتخابات الأخيرة، كما أكد وزير الخارجية عبد الله جول إن مسألة الحجاب ليست من أولويات أجندة الحزب في المرحلة المقبلة. ويمكن القول إن مشروع حزب العدالة والتنمية إنما يعد استمرارا وتواصلا لنفس المشروع الذي بدأه عدنان مندريس رئيس الوزراء الأسبق عن الحزب الديمقراطي ذي الصبغة الإسلامية إبان عقد الخمسينيات من القرن المنصرم، واستأنفه سليمان ديميريل ثم تورغت أوزال في عقود تالية، ووصل إلي أوجه مع نجم الدين أربكان في تسعينيات ذات القرن،وهو مشروع مصالحة تركيا الحديثة مع تاريخها وهويتها، من خلال الحد من التطرف العلماني للدولة وتقليص عدائها للدين، في مسعي لاستبدال علمانية متطرفة بأخري معتدلة، هي أقرب إلي النوع الأوربي، الذي يغلب عليه الحياد إزاء المسألة الدينية، بعيداً عن أسباب التصادم مع قوي أخري في الداخل والخارج.فالحركة الإسلامية التركية قد غلبت عليها الروح العملية والبراجماتية، فلم يعرف لها جهد في مجال الإنتاج الفكري، وقد كان مؤسسوها من فئة المهندسين وليس المشايخ، مارسوا العمل السياسي في مناخ علني مفتوح علي مدي نصف قرن ، وهو ما يميز الإسلاميين الأتراك عن الإخوان المسلمين ،الذين ظلوا طيلة عقود في خصومة مع نظم الحكم المتوالية،منعوا خلالها من ممارسة العمل السياسي إلا في استثناءات محدودة وظرفية. كما أن غلبة الروح العملية علي المجادلات النظرية الأيديولوجية جعل حركة التطور لدي إسلاميي تركيا يسيرة، مكتفين في المجال الأيديولوجي بالمتابعة الدقيقة لكل ما يصدر في العالم الإسلامي، عبر الترجمة السريعة، عن مفكري الحركة الإسلامية، لا سيما الجيل الجديد، مما دفع إلي تركيز جهدهم علي تأصيل فكر الحداثة في الساحة الإسلامية من قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدني، مع صبغة صوفية هي من تراث تركيا. تبقي الإشارة إلي إن حزب العدالة التركي قد إختبر في الحكم والسياسة حيث إستطاع أن يصل لأروقة السلطة علي مستوي المحليات مطلع هذا العقد وأبلي بلاء حسنا في أدائه حتي إتسعت قاعدته الجماهيرية وقفز إلي البرلمان ،الذي كان أداؤه أيضا ملفتا فيه وشكل الحكومة وكانت أفضل الإنجازات التي شهدتها تركيا في تاريخها الحديث نتاجا وثمرة لآداء حزب العدالة والتنمية في الحكومة علي كافة الأصعدة والمستويات.فخلال سني حكمه التي استمرت بين عامي_2002_ و_2006,_ تضاعف متوسط دخل الفرد، من_2500_ دولار في السنة إلي خمسة آلاف دولار، وانخفض التضخم من_29.7%_ إلي_9.65%_ وزاد الناتج المحلي من 181 مليار دولار إلي 400 مليار دولار، وارتفع الاستثمار الأجنبي من 1.14 مليار دولار إلي20 مليارا. الأمر الذي ساعد علي تحقيق الاستقرار السياسي، الذي لم تعرفه تركيا منذ نصف قرن. هذا في الوقت الذي لم يختبر الإخوان المسلمون في الحكم ،إذ ظلوا مكتفين بتقديم حلول سهله وإجابات مبتسرة تتمثل في شعار الإسلام هو الحل،لأزمات مستعصية ومشاكل مزمنة، متذرعين بإستبعاد النظام المصري لهم من حلبة الممارسة السياسية. وهي نقطة تحسب لحزب العدالة، الذي حقق نجاحا في السلطة ربما لا يتسني لجماعة الإخوان تحقيقه إذا ما أتيحت لها فرصة الولوج لكراسي الحكم في مصر.