العناوين الرئيسية التي نقرأها هذه الأيام عن أمريكا تبدو مألوفة نوعاً ما. فأمريكا زجت بنفسها في حرب غير قابلة للكسب في بلد بعيد هو العراق، لدرجة جعلت الكونجرس، بل والشعب الأمريكي نفسه، يندمان علي تأييدهما لتلك المغامرة في البداية. ونجد أن القوات البرية الأمريكية منتشرة علي امتداد مساحة تفوق قدرتها علي الانتشار، وأن العجز في الميزانية الفيدرالية يزداد سوءاً عاماً بعد عام، والعجز في الميزان التجاري قد وصل إلي حدود مزعجة، وأن القوي العظمي الأخري(الصين وروسيا والهند) تعمل علي تأكيد وجودها، وأن سمعة أمريكا قد وصلت إلي درجة من السوء ليس لها مثيل من قبل.. كما تدل علي ذلك استطلاعات الرأي التي أجريت في مناطق مختلفة من العالم. مع ذلك رأينا البيت الأبيض يعمد، متجاهلاً كل تلك الحقائق، إلي تطبيق سياسة زيادة عدد القوات في العراق علي الأرض، كما رأينا العديد من "المحافظين الجدد" يغادرون صفوف الحكومة، أو يخططون لمغادرتها عما قريب. يقودنا هذا إلي السؤال:"هل يعني ذلك أن أمريكا قد دخلت مرحلة أفول؟ ونظراً لأن المتوقع أن يزداد هذا السجال حدة بدلاً من أن تتناقص حدته، وخصوصاً مع اقتراب الانتخابات الرئاسية القادمة، فإنه قد يكون من المفيد أن نحدد عدة مسارات واضحة بين متاهات هذا الموضوع المعقد. العنصر الأول والأكثر أهمية في هذا السياق، هو أن ميزان القوي العالمية لا يستقر أبداً علي حال، حيث تتطور بعض المناطق أو الدول اقتصادياً علي نحو أسرع من غيرها من المناطق والدول، وهو ما تكرر حدوثه عبر فترات عديدة من التاريخ. وعندما يحدث ذلك، فإن الوزن النسبي لتلك القوي ونفوذها يزدادان، لأن القوي الاقتصادية-بحكم تعريفها- مادية فيزيقية يمكن أن تترجم تلقائياً إلي قوة سياسية وعسكرية. وسياسات القوة لا علاقة لها بلعبة "العالم المسطح" إذ هناك دوماً رابحون وخاسرون، وهي حقيقة واضحة يعرفها معظم اللاعبين الدوليين. فعلي مدار المئة أو المئة وخمسين عاماً الماضية، كان القانون الذي أطلق عليه لينين"قانون معدل النمو غير المتساوي" يعمل لمصلحة أمريكا. فبمجرد أن تم جلب الماكينة البخارية والكهرباء إلي القارة الأمريكية كان من الطبيعي أن تسبق أمريكا القوي الأصغر حجماً، مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان. وبحلول الحرب العالمية الأولي، كانت أمريكا تتحكم في نصف الإنتاج الصناعي في العالم. وفي عام 1945 وهو العام الذي انتهت فيه الحرب العالمية الثانية، أصبحت تمتلك 50 في المئة من وسائل الإنتاج العالمي، علي الرغم من أن سكانها لا يزيدون عن 4 في المئة من سكان العالم. هذا الوضع تغير وكان محتما له أن يتغير، فأوروبا شفيت من الجراح التي ألحقتها بنفسها، وأصبحت لاعبا رئيسياً علي الساحة الاقتصادية الدولية مثلها مثل أمريكا، والدول الآسيوية الكبري مثل الصين والهند من ناحية أخري، تسير علي طريق النمو الاقتصادي، وتغير موازين الإنتاج العالمي بخطي حثيثة لم يكن أحد يتنبأ بها من قبل، الأمر المتوقع، هو أن يقل نفوذ الولاياتالمتحدة(وربما أوروبا أيضاً) ونفوذهما الدولي عما هو عليه الآن، فهناك خبراء يتنبأون أن الناتج المحلي الإجمالي للصين سيتجاوز مثيله في الولاياتالمتحدة خلال جيل أو نحوه. ولكن هل يعني هذا أن القوة الأمريكية ستتعثر وتسقط من أعلي التل للهاوية بسرعة شديدة؟ حتي عندما يتغير مجري التاريخ فإن هناك بعض القوي العظمي التي أظهرت قدرة هائلة علي التكيف والمرونة. بل إن السقوط الفجائي لفرنسا النابوليونية وألمانيا الهتلرية والاتحاد السوفييتي المتهالك كان أمراً نادراً نوعاً ما. فإسبانيا الإمبراطورية استمرت لقرون، وعندما أفلت شمسها، تركت عالماً يفوق فيه المتحدثون بالإسبانية المتحدثين بالإنجليزية عدداً. فضلاً عن ذلك تميز كل من "آل هابسبيرج"، والعثمانيون والبريطانيون بالبراعة في تدبير أمر الأفول النسبي علي الرغم من أن أيا منهم أو كلهم مجتمعين في الحقيقة لم يكن لديه من الموارد ما يتشابه من قريب أو من بعيد بما لدي الولاياتالمتحدة اليوم. لذا فإن السؤال اليوم ليس هو ما إذا كانت الولاياتالمتحدة، تمر حالياً بمرحلة من الأفول النسبي بسبب تحول موازين القوي المنتجة العالمية أم لا؟.. لأن الحقيقة هي أنها تمر بتلك المرحلة بالفعل. وإنما السؤال هو ما إذا كانت قادرة علي تنفيذ سياسات يمكن لها تخفيف أثر هذه الاتجاهات، وتمكنها من أن تلعب لمصلحة مصادر قوتها الضخمة وغير المشكوك فيها، وتتفادي الأفعال التي تؤدي إلي ضعفها الذاتي بحيث تتوصل إلي ما يمكن لنا أن نطلق عليها "الأفول النسبي الذكي" علي ما تحمله الفكرة من تناقض ظاهري.