أختلف مع كل من يتحدث عن وجود أزمة "بطالة" في مصر، فعلي ما يبدو أن الأرقام التي تصدرها الجهات المختلفة عن وجود أعداد متزايدة من الشباب الذين لا يجدون عملاً هم بالتأكيد خريجو الجامعات الذين تخرجوا منذ سنوات وينتظرون فرصة العمل في "ماما" الحكومة التي اعتاد الشباب علي الالتحاق بها حتي ينعموا بتراب الميري وحتي يحمل كل منهم لقب "موظف".. والواقع أن الشاب الذي يتخرج من الجامعة لا يبذل أي مجهود في اكتساب مهارات جديدة لتأهيل نفسه للحصول علي فرص العمل الكثيرة جداً التي تتوفر في قطاع الأعمال الخاص الذي يعاني بشدة من نقص كبير في العديد من التخصصات، ولنأخذ مثلاً وظيفة السكرتير أو السكرتيرة _ أستطيع التأكيد أن معظم خريجي الجامعات والمعاهد الحكومية لا يصلحون لشغل هذه الوظيفة التي يتأفف الشباب عن الالتحاق بها، وهناك أيضاً وظيفة مندوب التسويق التي يرفضها حتي هؤلاء الدارسين لها والذين أمضوا سنوات في دراسة علومها.. ومع الاعتراف بقصور المناهج الدراسية التي لا يقيم واضعوها أي اعتبار لاحتياجات سوق العمل ؛ فنجد معظم خريجي الجامعات والمعاهد خاصة الحكومية ليس لديهم أي إلمام باللغات الأجنبية ولا بعلوم الحاسب الآلي وليس لديهم أي خبرات في العديد من الأعمال التي يطلبها سوق العمل رغم ما نسمعه ونقرأه كل يوم عن جهود التدريب التي تقوم بها وتعلن عنها وزارات وهيئات عديدة تنفق الملايين علي برامج فاشلة ومتخلفة، حتي أن من يحملون شهادات تدريب في مجالات مختلفة وأهمها التدريب المهني _ هؤلاء لم يستفيدوا شيئاً من هذا التدريب القاصر الذي يهتم بالشكل دون المضمون، ومن هنا فإن مصر من أقل الدول التي تستفيد من أبنائها في أسواق العمل العربية والأجنبية حيث يسافر هؤلاء الأبناء هائمين علي وجوههم بحثاً عن أي عمل والسلام ويقدمون جهودهم بأبخس الأسعار ويقبلون من المهن أدناها.. هذه هي الحقيقة حتي وإن تصادمت مع تصريحات السادة المسئولين عن تأهيل العمالة المصرية سواء للداخل أو الخارج _ حيث يطلقون تصريحات كاذبة وجوفاء، ولكن الواقع أننا نفقد كل يوم فرصاً لعمالتنا لحساب عمال دول آسيوية استطاعت أن تستفيد من ثروتها البشرية بتأهيلهم وتعميق ثقافة الاغتراب لديهم ومن ثم تقليل آثار مشكلة البطالة عن كاهل دولهم إضافة إلي الاستفادة بما تدخره العمالة الخارجية من ثروات تضخ الخير في شرايين الوطن.. وهنا أتساءل هل يحدث عندنا شيء من هذا؟! أما عن خريجي المدارس والمعاهد المهنية فهي مأساة فعلي الرغم من وجود منح أجنبية ومشروعات دولية مثل مشروع "مبارك كول" وغيره لكن الواقع يؤكد أننا نعاني بشدة من ندرة العمالة الفنية وفي كل التخصصات، هذا من ناحية، ومن ناحية أخري فإن الكثيرين من المتواجدين في سوق العمل الداخلي من الحرفيين يعتمدون علي "الفهلوة" والمراوغة وعدم الالتزام.. فكلنا نعلم ونقاسي من سوء سلوك الحرفيين خاصة عمال البناء وفي مختلف المهن الأخري _ لقد تغيرت أخلاق وسلوكيات الحرفيين في العشر سنوات الأخيرة وأصبح عدم الالتزام وعدم الإتقان وغياب الضمير هي السمات الأساسية لتعاملاتهم.. وهناك مهن أخري أصبحت تدخل تحت بند "الفهلوه" وعدم التخصص هي الأخري مثل مهنة "السائق"، فلا يوجد كثير من السائقين المؤهلين بل أصبحت هذه المهنة هي حرفة من لا حرفة له.. المهم أن بعد كل ذلك لا يخجل بعض المسئولين عن العمل والعمال والتدريب من الحديث عن جهودهم الجبارة وإنجازاتهم الوهمية وحسبنا الله ونعم الوكيل. والآن عزيزي القارئ.. هل توافقني الرأي في أنه لا توجد أزمة بطالة، بل إنها أزمة ثقافة مفقودة عن قيمة العمل، والرغبة المستمرة في العمل عند "ماما" الحكومة عملاً بالمثل البائس الذي يقول "إن فاتك الميري اتمرغ في ترابه".. وهنا نقول انتبهوا أيها السادة فإن ما ننفقه في إيجاد فرص عمل وهمية نتشدق بها ونحن نلقي بالتصريحات عن تعيين كذا ألف خريج لنضيف أرقاماً جديدة للعاطلين داخل دواوين الحكومة تساهم في مزيد من الترهل الوظيفي، فهناك كثير من المصالح الحكومية لديها موظفون ليس لهم مكان داخل مبناها، وآخرون ليس لهم علاقة بالمصلحة المعنية فيها سوي قبض الراتب أول كل شهر.. إنني لا أطرح اكتشافاً عبقرياً إنما أعيد عرض مشاهد نراها جميعاً كل يوم ويعلمها المسئولون.. ليتنا نفكر في إقامة مشروع قومي للتدريب.. تدريب بجد وليس تهريجاً كالذي يحدث _ تدريب عملي ونظري واختبارات حقيقية وبرامج واقعية علمية تتمشي وتواكب تكنولوجيا العصر وليس تكنولوجيا البكش والأونطة والتصريحات المضروبة. أعود وأتساءل.. هل حقاً نحن نعاني من أزمة بطالة؟.. أم أن هناك أزمة أخري يجدر بنا أن نصارح أنفسنا بها _ فهل هناك من يجيب؟ والله من وراء القصد.