عندما نسمع عن مسيحي أشهر إسلامه في الغرب نفرح ونهلل بل ويعتبر الكثيرون ذلك نصرا للإسلام. وأذكر أنه حينما أعلن الفيلسوف الفرنسي الكبير روجيه جارودي قراره باعتناق الدين الإسلامي في بداية الثمانينات استقبلنا هذا الخبر بفرحة كبيرة واحتل مكانة بارزة في وسائل الإعلام وتحليلات المعلقين. وشاءت الأقدار أنني كنت من أوائل من التقوا بجارودي في باريس بعد أيام قليلة من إشهار إسلامه. فقد تصادف أنه كان مشاركا في ندوة بمقر منظمة اليونسكو التي كنت أعمل بها آنذاك، فقدمت له نفسي وأبدي الرجل سعادة كبيرة أن يهتم به صحفي ومثقف مصري. وأذكر أنه زارني بمكتبي في اليونسكو وتحاورنا لمدة تزيد علي ساعتين ونشرت هذا الحوار بمجلة المصور وقتها. لكن ألم نسأل أنفسنا: كيف قبلت الكنيسة أن يخرج جارودي المسيحي عن دينه ويعتنق دينا آخر ويجهر، بل يفخر بذلك، في وسائل الإعلام؟ ألم نسأل أنفسنا كيف لم تقم الدنيا وتقعد وكيف لم ترفض فرنسا أن ينسلخ هذا المفكر الكبير عن دين الأغلبية ويدخل في دين غريب عن أوروبا؟ ولأني كنت هناك فإنني أعلم أن ذلك قد تم دون أية مشكلة من أي نوع من الأنواع. لم يتعرض جارودي لأي شكل من أشكال القهر أو الإرهاب الفكري أو الضغط النفسي لكي يرجع عن قراره الذي اتخذه بوازع من ضميره. بالتأكيد أن جارودي لم يعد يحظي بالمكانة التي كان يحظي بها كمفكر وفيلسوف مرموق في فرنسا وبالتأكيد أنه حدث نوع من التعتيم أو عدم الاهتمام بخبر إسلامه في فرنسا.. ومَثلَ بعد ذلك أمام المحكمة لكتابه عن عنصرية دولة إسرائيل.. لكن أحدا لم يرمه بالكفر ولم يفقد أهليته أو حقوقه المدنية لأنه خرج عن دين الجماعة. وهذا بالتحديد ما يحدث عندنا لو اجترأ أحد وفكر مجرد تفكير في تغيير دينه، فإن حياته تتحول إلي جحيم ويواجه وابلا من التقريع والتهديد والضغط النفسي الرهيب. فنحن لا زلنا نعيش بعقدة "حروب الردة"، تلك الردة التي كادت تعصف بالدين الجديد بعد انتقال الرسول الكريم إلي الرفيق الأعلي. وقد كان البعض منذ ظهور الرسالة يتلاعبون بالدين الجديد ويشهرون إسلامهم ثم يرتدون إذا اقتضت مصلحتهم ذلك، وقد أضر هؤلاء المنافقون كثيرا بالإسلام حيث جعلوا الموضوع تجارة يربحون منها أو يخسرون. وقد رفض النبي هذا الوضع كما شن الخليفة الأول أبو بكر حروب الردة الشهيرة للقضاء علي هذه الظاهرة. أما الآن فقد تغيرت الأوضاع كلية وأصبح المسلمون يشكلون قوة كبيرة في العالم ويتمسكون بدينهم. والشرذمة التي تملكتها الرغبة في اللجوء إلي دين آخر للبحث عن حقيقة ذاتها، فهي في رأيي حرة في ذلك ولن يضر الدين الإسلامي شيء إذا خرجت منه بضع عشرات أو بضع مئات، خاصة وأن أعدادا أكبر تدخله اقتناعا وإيمانا. والدين لب الضمير والأنا الداخلية التي تصل إلي أعمق أعماق الإنسان. ولا يستطيع الإنسان أن يفسر حتي لنفسه كيف آمن بالله. وعادة ما يكون إيمانه قد تولد وهو طفل من سماع ما يردده أهله وأبناء مجتمعه. فالغالبية العظمي من الناس يكونون علي دين آبائهم ويؤمنون بالدين المسيطر علي مجتمعهم. وقليل جدا من الناس يأتيهم وازع خفي يدعوهم إلي الإيمان بدين مختلف. وكل المكتسبات الإنسانية منذ بداية الحضارات تسير في اتجاه حرية الفرد في تحديد قناعاته وآرائه وديانته بحرية كاملة طالما أن ما يؤمن به لا يؤذي أحدا وأنه لا يدعو إلي العنف أو التخريب أو خرق القوانين. فقد اكتشفت المجتمعات المتقدمة أن تغيير الدين هو جزء لا يتجزأ من مكنون الضمير الداخلي للإنسان الذي لا يخضع للقوانين ولا يجوز للدولة أو الجماعة أن تتدخل فيه. لكن هذه المفاهيم لم تصل إلي مجتمعاتنا بعد. وهناك قصص مأساوية نسمع عنها وبالتأكيد أن هناك أحيانا تهويلا وتضخيما للأمور بشأن معاملة المواطنين المصريين المسلمين الذين يعتنقون المسيحية. لكن الواقع أن هناك رفضا قاطعا لمثل هذا التحول وهناك عداء سافر لكل من تسول له نفسه الكلام في هذا الموضوع ناهيك عن تنفيذه. وقد قرأت أن سيدة مسلمة اعتنقت المسيحية فاستدعيت في الشرطة وبادرها شاب منفعل صائحا فيها : كيف لم يقتلك أهلك حتي الآن؟ وربما لم يكن هذا الضابط الشاب يعبر عن وجهة نظر وزارة الداخلية، لكنه كان بالتأكيد يعبر عما يعتمل في نفس غالبية الناس في مصر والعالم العربي. فحرية تغيير العقيدة غير مسموح بها في بلادنا. والبعض علي استعداد لاستخدام أشد أنواع القسر والإرهاب لتخويف من تسول له نفسه تغيير عقيدته. وأصبح هناك مناخ من الترويع والترهيب النفسي حول كل ما يتعلق بحرية العقيدة ومجرد التفكير في تغيير الدين. الشيء الوحيد المقبول هو أن يتحول مسيحي أو يهودي إلي الإسلام. أما العكس فيعد كارثة غير مقبولة شكلا أو موضوعا، بل ويعتبرها البعض إثما أكبر من الخيانة العظمي للوطن. مع أن الخيانة العظمي للوطن من قبل أي مواطن قد تضر بالوطن ضررا بالغا وهناك سوابق في مجال الجاسوسية تدل علي فداحة الثمن الذي دفعته مصر بفعل بعض الخونة خاصة في سنوات المواجهة مع إسرائيل. أما خيانة الفرد للدين فلا تؤثر في الإسلام بأدني درجات التأثير. ولا شك أن هذه ازدواجية في المعايير لا يبررها المنطق. فلماذا نقيم الأفراح عندما يشهر مسيحي أو صاحب أية ديانة أخري إسلامه ونجد أنه من الطبيعي أن يتقبل المجتمع الذي ينتمي إليه وأبناء ديانته خروجه عن دينه كأمر طبيعي وكحق من حقوقه الأساسية.. ثم نهدد ونتوعد ونلجأ إلي أسوأ الأساليب مع من يغير دينه من المسلمين؟ آن الأوان أن نقتنع بما جاء بالقرآن الكريم: "لكم دينكم ولي دين" وأن نشارك شعوب العالم في مبدأ أن تغيير الدين هو حق من حقوق الإنسان.