كانت المناسبة ورشة عمل عن "السياسات الخارجية للدول العربية" بمناسبة صدور الطبعة الثالثة من كتاب تحت نفس الاسم ومؤلفاه هما د. علي الدين هلال- أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة- ود. بهجت قرني- أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكيةبالقاهرة. والأول معلوم للعامة كوزير سابق للشباب، وعضو بارز بالحزب الوطني الديمقراطي وأمانته العامة ومكتبه السياسي، ولكن أهم منجزاته تقع في مجال العلوم السياسية التي كان واحدا من أهم أعمدتها في مصر خلال العقود الثلاثة الماضية، وإليه يعود الفضل في تحقيق نقلة كيفية في مجال هذه العلوم من محتواها القانوني التقليدي الذي كان سائدا في مصر منذ الثلاثينيات حتي نهاية الستينيات إلي محتواه السلوكي الحديث الذي عرف الفارق بين "السياسة" كمجال مستقل للبحث والدراسة و"القانون" وتفريعاته الدستورية والمدنية. والثاني الذي قضي معظم حياته العملية خارج مصر، إلا أنه حقق ما لم يحققه الكثيرون من دول العالم الثالث عندما كان واحدا من القليلين الذين حاولوا تطوير النظرية السياسية لكي تناسب ظروف العالم الثالث المتغيرة والمنعقدة معا مما حفر له مكانا مرموقا ضمن أساتذة العلوم السياسية في العالم. وبالتأكيد فإن كتابهما عن " السياسات الخارجية للدول العربية" سوف يظل فريدا ليس فقط لأنه الكتاب الوحيد في الموضوع، وإنما لأن الموضوع نفسه يشكل تحديا علميا لكل من يتناوله. فالأصل في دراسة السياسة الخارجية للدول في العالم أنها خضعت لمدرستين من مدارس التحليل: واحدة منها " عقلانية"- RATIONAL- تقوم علي نموذج للتفكير يحسب مخاطر وفرص السياسة الخارجية، ويخرج منها بمجموعة من الخيارات ذات التكلفة والعائد، ومنها يأخذ صاحب القرار الخيار الذي يعظم المصالح ويقلل الخسائر. والمدرسة الأخري تراكمية، فالقادة وأصحاب القرار لا يدخلون مجالا للحسابات الدقيقة، وإنما يخضعون لتقاليد متراكمة عبر سنوات طويلة تحتمها الجغرافيا والتاريخ والمواقف المتتالية وبالتالي فإن القيادة السياسية لا تختار وإنما تجد نفسها وقد وصلت إلي قرار يبدو منطقيا ومتسقا مع المصلحة الوطنية. مثل هذه المدارس لا وجود لها في العالم الثالث عادة، فلا مجال هناك للحسابات الدقيقة، والخيارات المحسوبة، كما أن فترة الاستعمار والخضوع للخارج منعت تحقيق التراكم اللازم أو بناء المؤسسات التي تستوعب التجارب التاريخية وتعيد استخدامها. وتكاد تكون القضية مضاعفة في العالم العربي، ليس فقط لأنه تعرض لفترات انقطاع طويلة منعت تراكم التجارب وفاعلية المؤسسات، وإنما لأنه كان موضوعا مستمرا للنظم الدولية المتعاقبة التي كانت قراراتها الأساسية تتخذ علي مستوي العالم الغربي. وخلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين فقد كانت سياسات الاستعمار وتصفية الاستعمار هي التي فرضت علي العالم العربي نوعيات بعينها من السياسات الخارجية أو الداخلية التي تدور كلها حول موضوع واحد هو تصفية الاستعمار. وحتي عندما بدا أن الاستعمار في طريقه للانحسار، ما لبثت القضية الفلسطينية أن احتكرت السياسات الخارجية للدول العربية. وبعد الحرب العالمية الثانية التي دخلها العالم العربي مضطرا وهو لا ناقة له فيها ولا جمل، دخلت الحرب الباردة إلي المنطقة العربية عاكسة نفسها في سلوكيات الدول حتي أن عالم السياسة الأمريكي الشهير مالكولم كير كتب كتابه عن "الحرب الباردة العربية". وخلال هذه الفترة كانت السياسات الخارجية للدول العربية ترسم في واشنطن أو موسكو أو تصير محددة بينهما من خلال سياسات عدم الانحياز. وفوجيء العالم العربي كله عندما وجد الحرب الباردة انتهت دون علم منه، والأخطر وجد نفسه داخلا في نظام دولي جديد قوامه العولمة بكل ما فيها من تدفق للسلع والبضائع والأفكار عبر الحدود والدول. ولفترة طويلة كانت الدول العربية كلها تنكر وجود " النظام العالمي الجديد" لأن "الجديد" كان مفزعا، ولا تري في "العولمة" إلا شرا مستطيرا اختلقته عقليات شريرة. وعندما قام عالم ما بعد 11 سبتمبر 2001 وجعل من العالم العربي مسرحه الأساسي لم تعلم الدول العربية عما إذا كانت الحرب ضد الإرهاب تخصها أو تخص غيرها، وباتت غير قادرة تماما علي التمييز بين الإرهاب والمقاومة والسياسة الخارجية والسياسة الداخلية. ولكن المعضلة الكبري في العالم العربي كانت أن دوله لم تعد دولا عندما انهارت سلطة الدولة في عدد من الدول العربية؛ ومن المعروف أن شرط وجود الدولة ضروري لوجود سياسة خارجية ناجحة أو فاشلة. ومن المستحيل الحديث عن سياسة خارجية للعراق أو فلسطين أو الصومال أو لبنان في وقت سقطت فيه الدولة أو الكيان السياسي وبرز مكانها وحدات سياسية جديدة أصبحت لها سياسة خارجية وحتي نظرية من نوع ما للأمن القومي. وخلال السبعينيات من القرن الماضي برزت لأول مرة إمكانية الحديث عن السياسة الخارجية لكيانات غير الدول، وكان المثال الذائع في هذا الوقت منظمة التحرير الفلسطينية التي كان لها سفراء ووفد مراقب في الأممالمتحدة وعديد من المنظمات الدولية. ولكن ما كان استثناء في الماضي فقد أصبح شائعا في الحاضر، فتنظيم القاعدة لم يعد فقط منظمة واقعة علي الحدود الباكستانية _ الأفغانية، بل بات منظمة عالمية لها سياسيات خارجية، وأخري دفاعية، ولها أجهزة مخابرات، وجماعات لتصنيع الأسلحة، وقدرة علي التخطيط لإدارة معارك في قارات متعددة. وفي صيف العام الماضي خاض حزب الله حربا وحده مع إسرائيل كان هو الذي بدأها، كما كان هو الذي تفاوض علي نهايتها. وقبل أن تصل منظمة حماس إلي السلطة في فلسطين فقد كانت لها سياساتها الخارجية، وحتي بعد انتخابها فإنها أبقت لنفسها قيادة خارج فلسطين هي التي تتخذ قرارات الحرب والسلام وتوقع اتفاقيات الهدنة مع العدو والصديق. إنها حالة عربية تستحق التأمل والمراجعة !!.