نجحت الرياض فيما لم تنجح فيه لا القاهرة ولا الدوحة في التقريب بين الفصائل الفلسطينية والتوصل إلي اتفاق بين منظمتي فتح وحماس، وما بين رئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية ورئاسة الحكومة الفلسطينية أيضا. ولم يكن ذلك راجعا لأن الرياض كان لديها ما هو أكثر من النفوذ السياسي لأن للقاهرة ليس فقط نفوذ وإنما لديها تواجد فعلي علي الأرض الفلسطينية من خلال بعثة أمنية عملت بكد وجد من أجل التوصل إلي وقف لإطلاق النار وتسوية سياسية بين الطرفين. وأكثر من ذلك فإن القاهرة لا تزال هي البوابة الرئيسية لجماعة حماس القاطنة في غزة حيث لا يوجد لديهم منفذ للخروج والدخول للأموال والأشخاص غير معبر رفح. كما لم يكن ذلك راجعا لأن الرياض كان لديها من المال والحوافز ما يكفي للتوصل إلي اتفاق، لأن الدوحة كانت علي استعداد لدفع ما هو أكثر لقاء صورة تلتقط عندها للاتفاق الفلسطيني الداخلي. ولا يمكن فهم ما جري علي ضوء ما سوف يسارع له بعضنا من تراجع الدور المصري وتنامي الدورين السعودي والإيراني في المنطقة؛ فرغم وجود حق مصري أصيل في الانتباه إلي مشاكل مصر الداخلية، فإن مصر كانت تنجح وقتما تريد في أن تكون بؤرة الحركة السياسية وهو المرجح في المرحلة المقبلة إذا ما تم إطلاق عملية التسوية مرة أخري حيث سيصبح علي القاهرة أن تقوم بأدوار لا تستطيع لا الرياض أو الدوحة القيام بها. وعلي أي الأحوال، وسواء تعلق الأمر باتفاق مكة، أو بما سوف يتلوه من تحركات، فإن الخطوة التي نجحت فيها السعودية تشكل نجاحا لمعسكر الاعتدال العربي في المنطقة لا يمكن الحكم بنتائجه في هذه اللحظة، ولكن المؤكد أنه يفتح أبوابا ونوافذ كثيرة ساهمت فيها زيارة إنجيلا ميركل المستشارة الألمانية للقاهرة والرياض، وزيارة أحمد أبو الغيط وزير الخارجية المصري والوزير عمر سليمان لواشنطن. ولكن وضع اتفاق مكة في سياقه حتي لو صدقنا ما قاله إسماعيل هنية علي سبيل الترضية من أن الطريق إلي مكة قد مر عن طريق القاهرة، فإن الحقيقة هي أن الدبلوماسية السعودية استخدمت طريقا مختلفا عن ذلك الذي اتبعته القاهرة، ومن المرجح أن تبعاته سوف تؤثر علي المنطقة. فقد جري اتفاق مكة تحت الرعاية الكاملة للعاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود بينما احتفظت الدبلوماسية المصرية بمؤسسة الرئاسة بعيدا عن عملية المفاوضات بين الأطراف الفلسطينية. ولم يكن ذلك راجعا لأن الرئيس مبارك ليس علي استعداد للقاء مع السيد محمود عباس رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية، فقد كان يفعل ذلك بشكل مستمر وبنفس الطريقة التي كانت تتم مع الرئيس السابق ياسر عرفات. ولكن المشكلة المصرية كانت مع خالد مشعل زعيم حركة حماس الذي ظلت لقاءاته مع المصريين سواء تمت في القاهرة أو في دمشق تتم في إطار الأجهزة الأمنية وهي المساحة التي سمحت بها مصر للتعامل مع جماعة الإخوان المسلمين بصفة عامة وحركة حماس بصفة خاصة. مثل ذلك لم يكن مقبولا من جانب حركة حماس، ومن ثم عمل خالد مشعل بدأب علي إفشال كافة الجهود المصرية، وفي بعض الأحيان تصورت القاهرة أن ذلك راجع إلي "ممانعة" دمشق، وكان ذلك صحيحا في جانب منه، ولكنه ليس علي إطلاقه فقد كان خالد مشعل يريد الخروج من هذه الأزمة وهو واقف علي قدم المساواة مع محمود عباس رئيس السلطة ومنظمة التحرير التي لم تعترف لهما حماس قط بقيادة الشعب الفلسطيني. والحقيقة أن مشكلة القاهرة مع خالد مشعل، ومشكلة خالد مشعل مع القاهرة، كان فيها طرف ثالث يتمثل في حركة الإخوان المسلمين المصرية المحظورة والمشروعة في آن واحد. فلم يكن مفهوما لدي خالد مشعل كيف يمكن له التعامل مع القاهرة علي مستوي أقل من المستوي الرئاسي الذي يتعامل به محمود عباس، بينما يتم في نفس الوقت توجيه ضربة أمنية لجماعة الإخوان الأم. فبالنسبة لحركة حماس فإن الفصل بين ما هو خارجي وداخلي غير موجود كما هو الحال بالنسبة للدولة المصرية، فلا يمكن الاعتراف بالحركة إذا كانت في فلسطين وإنكارها تماما طالما كانت في القاهرة. صحيح أن القاهرة نجحت في وضع عدد من الخطوط الحمراء مع حماس تتعلق بعلاقاتها مع جماعتهم في مصر، ولكن الخطوط الحمراء لا تقف أمام طرف واحد ولكنها في العادة تقف أمام الطرفين، ووضح أن التنسيق غير كامل في السياسة المصرية بين الحركة الدبلوماسية في الخارج والحركة الأمنية والسياسية في الداخل. أمر آخر فعلته الدبلوماسية السعودية لم تفعله الدبلوماسية المصرية، فبينما قامت الأولي علي المقولة التي قالها العاهل السعودي "سوف تضيعوننا وتضيعون أنفسكم" إذا ما استمر الحال علي ما هو الحال من تقاتل فلسطيني؛ فإن الثانية قامت علي أن هذا التقاتل يمثل مشكلة فلسطينية يكون فيها الغرم علي الفلسطينيين إذا ما استمرت، والمغنم للفلسطينيين إذا ما توقفت. وقد يبدو أنه لا يوجد فارق بين المنهجين، فالدبلوماسية السعودية أضفت علي الموضوع ساحة للمشاركة، أما الدبلوماسية المصرية فقد أعطت للفلسطينيين الاستقلال الذي يصبون إليه. ولكن القضية أعمق من هذا وذاك، فالدبلوماسية السعودية الساعية إلي حل عربي _ إسرائيلي لن تسمح للفلسطينيين أن يضيعوا بقية العرب ومن ثم فإنهم إما أن يحلوا مشاكلهم أو يجد العرب حلا لها بوسائل أخري. أما الدبلوماسية المصرية فإنها جعلت القضية الفلسطينية خاصة بالفلسطينيين وحدهم فإذا فشلوا فإنه بوسع القاهرة وبقية العواصم العربية الانتظار حتي ينضج الفلسطينين للحل. ولكن يبقي أن الفائز الأكبر من اتفاق مكة هو خالد مشعل الذي عبر بسهولة بين معسكر "الممانعة" إلي معسكر "الموافقة"، ولكن لا أحد يعرف عما إذا كان ذلك سوف يكون عبورا دائما أم أن هناك اتفاقات أخري في دمشق أو طهران يمكنها أن تعوق بقية العملية السياسية التي يجري إنضاجها الآن علي نار هادئة ومن ثم تصبح الفرحة باتفاق مكة مبكرة للغاية؟. الفيصل في الموضوع سوف يبقي إلي أي حد سوف يميز خالد مشعل، وحركة حماس، بين مصالح الشعب الفلسطيني في التسوية التي تنقله إلي حالة السلام، أو أن تيار الممانعة سوف يبقي علي حاله مناضلا حتي آخر الزمان؟!.