حسابات النصر والهزيمة في إضراب لبنان المعلق

إذا كان المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، فإن الأمر نفسه صحيح بالنسبة للمتطرف. لذلك فليس من الغريب أن يجمع التطرف في حد ذاته بين أطراف متعارضة الأفكار والمصالح فيصدرون بيانا تحريضيا، أو يقومون بمظاهرة تبتز الحكومة، أو يعملون بدأب علي هدم أعمدتها الشرعية علي رؤوس الناس وعلي رؤوسهم. والزعيم المتطرف يرقي إلي مكانه ويكتسب مكانته من قدرته الفائقة علي نسج شبكة من الألفاظ المبرأة من أي تطرف ليخفي بها طاقة التطرف هائلة الحجم التي امتلأت بها جوانحه. هذا علي مستوي الكلمات أما علي مستوي الفعل، فهو بكل المقاييس ليس إلا عدوانا صريحا علي حقوق الناس من حوله وحيواتهم. ولما كانت الدنيا لحسن الحظ لم تخلق بالأمس فقط بل من ملايين السنين الحافلة بالخبرات لذلك كان من السهل علي الوعي الجمعي أن يرصد هذا النوع من السلوك وأن يشخصه في دقة بالغة في أمثلة شعبية تمثل قواعد في السلوك البشري غير قابلة للإنكار أو التشكيك. يقول المثل الشعبي " أسمع كلامك أصدقك.. أشوف أمورك أستعجب" وذلك عندما تهيم الكلمات في ناحية ويتحقق الفعل في الناحية الأخري. هذا هو التطرف الذي يبلغ أعلي درجاته عندما يطالبك المتطرف بالتخلي عن كل حصون العقل والقانون لكي يتمكن من القضاء عليك وهو ما لخصه المثل الشعبي في أقصر حوار في التاريخ" نام لما أدبحك.. فقال له، ده شيء يطير النوم" ليس رجل الدولة الدستورية فقط هو من يطلب الحوار من أجل الوصول إلي أرض مشتركة بينه وبين خصومه السياسيين، بل يطلبه المتطرف أيضا ولكن بهدف أن تنام لكي تسهل له مهمة القضاء عليك.
في خطابه الأخير قبل الإضراب بيوم واحد، كان السيد حسن نصر الله حريصا علي استخدام مفردات السياسة فقط، هو قائد للمعارضة يطلب المشاركة في الحكم. لقد أصدر منذ شهور قرارا بأن يكون الشارع أمام قصر رئاسة الوزراء هو مقر إقامة أتباعه وأتباع غيره وذلك للضغط علي الحكومة. ماذا في ذلك، أليست هذه هي الديمقراطية؟ أليس من حق المعارضة أن تضغط علي الحكومة لكي تستجيب لمطالبها من أجل الوطن؟ وصمدت الحكومة للتجربة مستندة إ ي شرعيتها الدستورية فكان لابد من التصعيد ( الديمقراطي) أي الإضراب عن العمل، أي إثم أو خطأ في ذلك، أليس الإضراب أداة شرعية من أدوات الديمقراطية؟ غير أنه كان إضرابا غريبا لا تعرفه الديمقراطيات المعاصرة ولا القديمة، إنه إضراب المضربين أصلا عن العمل . هكذا بدأت الكلمات التي صدقها الناس من قبل تتبدد، وأخذت الأمور التي تدعو إلي العجب في الاتضاح بالضبط كما قال المثل الشعبي من قبل. كان من الصعب أو من المستحيل إخفاء الهدف الذي عرته كاميرات التليفزيون ونقلته إلي سكان الأرض جميعا،و هو إسقاط الحكومة الشرعية وذلك بضخ أكبر كمية من العنف في الشارع. لم نشاهد علي شاشات وكالات الأنباء شخصا يقف أمام باب ورشته المغلق ليقول: أنا مضرب عن العمل حتي ترضخ الحكومة لمطالبنا. ما شاهدناه بوضوح كان غير ذلك، رأينا المعارضة تأتي بعربات الزفت والزلط وتلقي بها في الشوارع لتغلقها وتوقف بها حركة الحياة في لبنان. شاهدنا المعارضة تمنع الناس من المرور، شاهدنا الإطارات المحترقة بل والسيارات المحترقة بغير تفخيخ هذه المرة، وفجأة ظهر في الشارع من استفزهم الأمر، ظهروا مسلحين بالهراوات فشاهدنا الناس يضربون بعضهم البعض في قسوة، ثم قرأنا خبرا عاجلا هو تعليق المعارضة للإضراب.يبدو لي أن المعارضة غير الملتزمة بالدستور إرادت إخافة رجال الدولة في لبنان غير أنهم احتفظوا بأعصابهم هادئة إلي أن جاءت تلك اللحظة التي تصدي فيها الشارع للشارع. وهو ما ينذر بصعود أحشاء المدينة في فلتان لم يكن واردا في حسابات المعارضة. أعتقد أنهم كانوا يتوقعون أن الاستفزاز المتواصل سيدفع الحكومة في النهاية للدفاع عن نفسها باستخدام قوة الشرطة وقوة الجيش فيسقط القتلي بالمئات ويسقط الجرحي بالآف، عند ذلك يمكن الحديث إلي العالم كله في خطاب بليغ قوي ومؤثر عن حكومة لبنان الفاشية التي تعاملت بوحشية مع المواطنين الأبرياء الذين خرجوا يمارسون الديمقراطية في الشارع. ولا بأس من إضافة عدة تهم أخري تجد رواجا هذه الأيام وهي أن الحكومة اللبنانية تنفذ أجندة أمريكية إسرائيلية لتفتيت لبنان وتقسيمه. وبمناسبة التقسيم والتفتيت والتفكيك، تحويل المنطقة إلي كانتونات أو دويلات أو مناطق يسودها العنف هو ما يمثل سيناريو الرعب بالنسبة لإسرائيل وأمريكا والغرب عموما، هذا هو بالضبط ما يتحاشون جميعا الوصول إليه، من علي الأرض يرحب بأن يعيش في جزيرة يحيط بها بحر من الانقسام و العنف والفوضي؟ المستقبل في المنطقة العربية للدولة ذات المؤسسات وكل الأحداث التي تمر بنا تزيدنا وعيا بحتمية وجود الدولة الدستورية لأنها السبيل الوحيد لحماية حقوق المواطن الفرد وذلك من خلال مؤسساتها. إلي الأبد ستظل هناك طرق عديدة للضغط علي الحكومات ولكن بالتأكيد ليس من بينها إشاعة العنف في الشارع.