بالرغم من كل الدعاية والاهتمام الإعلاميين اللذين رافقا صدور التوصيات التسع والسبعين التي أتت بها "مجموعة دراسة العراق" الأسبوع الماضي، فإنها لم ترق سوي إلي مستوي الموقف الوسط بدلاً من أن تكون اتجاهاً جديداً وجريئاً. حيث تحدثت اللجنة فيما يشبه محاولة لرفع العتب عن فكرة القيام بنشاط دبلوماسي أوسع، بل وذهبت إلي حد الدعوة إلي تنظيم مؤتمر إقليمي. غير أن تفكيرها مازال ضيقاً جداً ويتخذ من الولاياتالمتحدة محوراً له. والحقيقة أن سياسة الولاياتالمتحدة يمكنها وعليها أن تكون أفضل من ذلك؛ ولعل أول ما ينبغي أن تقوم به هو النظر إلي خريطة أكبر وأشمل. ذلك أن العنف في العراق يقع داخل توترات إقليمية هو جزء منها، تنتشر في منطقة علي شكل هلال يمتد من تركيا في الشمال الغربي، إلي السودان والصومال في الجنوب الغربي، والهند في الشرق. وبالرغم من الأخطار الكبري التي يطرحها هذا القوس بالنسبة للسلام والاستقرار العالميين، فإن استراتيجية الولاياتالمتحدة القائمة علي التعاطي مع المشكلات والأزمات الإقليمية الواحدة بمعزل عن الأخري فشلت حتي الآن في جلب الاستقرار أو الوضوح إلي هذا اللغز الإقليمي. ذلك أن عدم قدرة السياسة الأمريكية علي الإقرار بتداخل وتشابك المشكلات التي تعصف بالمنطقة إنما يؤجج نار العنف هناك، ما يجعل عالمنا اليوم أقل أمنا من العالم الذي كان موجودا حتي قبل 10 سنوات. مما يحسب ل "مجموعة دراسة العراق" إقرارها باستحالة النظر إلي العراق من دون النظر إلي المنطقة في شموليتها. ولكن يبدو أنها لم تفهم جيدا سؤال "لماذا" ينبغي أن يتدخل فاعلون إقليميون آخرون في مساعدة العراق؛ كما أنها لم تتناول بصراحة حالات فشل سياسة الولاياتالمتحدة الحالية في المنطقة. فبخصوص العراق علي سبيل المثال، كان الجدل يدور حول ما إن كان ينبغي علي الولاياتالمتحدة أن ترحل أو تبقي؛ وبخصوص لبنان، كان التركيز علي نزع سلاح "حزب الله"؛ وبخصوص إيران، يتعلق الأمر بالتكنولوجيا النووية؛ وبخصوص الصومال، يدور النقاش حول ما إن كان ينبغي أن يتغلب زعماء الحرب المدعومون من قبل الولاياتالمتحدة علي الميليشيات الإسلامية. والواقع أن التعاطي مع هذه المشكلات بشكل فردي، كما لو كان من الممكن تقسيمها، لن يفضي إلي النتائج المنشودة، ولن يتسبب سوي في المزيد من التحديات الجديدة بأماكن أخري. ولنا في العراق خير مثال علي ذلك. والحقيقة أن هذه النزاعات ليست مترابطة جغرافيا فقط، وإنما اقتصادياً وسياسياً وديمغرافياً أيضاً. ولذلك، فثمة حاجة ملحة وعاجلة إلي مقاربة شاملة وعامة؛ وقد حان الوقت كي تقوم الولاياتالمتحدة بصياغة "صفقة كبري" للمنطقة، تضم اتفاقية شاملة أو مجموعة من الاتفاقيات مع جميع البلدان الموجودة علي القوس. ولهذا الغرض، سيتطلب الأمر مقاربة متعددة الأطراف وغير مسبوقة؛ كما ستحتاج الولاياتالمتحدة إلي التعاون بشكل وثيق مع الشركاء الرئيسيين داخل المنطقة وخارجها. والواقع أن عقد صفقات علي هذا المستوي يتطلب إرادة سياسية كبيرة جداً، وهو ما لا يمكن أن يتأتي إلا من خلال فهم جيد لحقيقة أن الصفقة موضوع الحديث ليست بتمرين نظري في الدبلوماسية، وإنما هي اعتراف عملي بمدي ترابط أعمال العنف في المنطقة. معظم المراقبين في العالم علي سبيل المثال (باستثناء واشنطن) مقتنعون بأن الفشل في ظهور دولة فلسطينية إلي جوار إسرائيل آمنة وسليمة، تسبب في تأجيج مشاعر معاداة الولاياتالمتحدة في المنطقة. ولعل أكثر ما لا يعرفه المراقبون أن انعدام الاستقرار في باكستان، والذي يعزي في جزء منه إلي النزاع القائم مع الهند بسبب كشمير، غذي نسخة متشددة من الإسلام السُني الذي زعزع استقرار باكستانوأفغانستان ووفر ملاذا آمنا ل "القاعدة". والواقع أن الترابط يكون واضحاً أحيانا وخفياً أحيانا؛ ولكن ينبغي التعاطي معه من أجل أن تتجاوز السياسة الأمريكية إلي فكرة "الحرب علي الإرهاب" المغرقة في التبسيط، والتي تحجب الواقع الإقليمي بسبب مفارقة "معنا أو معهم". تسود القوسَ توتراتٌ سببها نزاعات مشتركة، ولكن تربِطه في الآن نفسه خيوطٌ مشتركة تميل نحو السلام. وهكذا، فمن شأن صفقة كبيرة أن تعزز الكثير من المصالح المشتركة، عبر مواجهة التحديات الديمغرافية والاقتصادية والأمنية بشكل جماعي داخل المنطقة ومع جيرانها الخارجيين. كما أن من شأن ذلك تشجيع شراكة فريدة تستلهم نموذجها من العلاقة الأمريكية الأوروبية أكثر من المنهجيات الكولونيالية الماضية. وعلي سبيل المثال، يقتضي الشق المتعلق بأفغانستان في صفقة كبيرة ثلاث خطوات علي الأقل: أولاها: علي الولاياتالمتحدة العمل علي تبديد المخاوف الإيرانية من هجوم عسكري قد تشنه القوات الأمريكية في أفغانستان. ثانيتها: علي الرئيس الباكستاني برويز مشرف كبح أجهزة الاستخبارات الباكستانية وأعضاء "طالبان" الموجودين في باكستان، والذين يعملون علي إضعاف السلطة في أفغانستان. ثالثتها: علي الولاياتالمتحدة أن تحث الهند علي الانفتاح أكثر علي الحوار متعدد الأطراف حول كشمير، وهو ما سيدعم مشرف داخلياً. وعليه، فينبغي تحسين البنية الدبلوماسية للولايات المتحدة قصد تأمين هذه المجموعة من الاتفاقيات المترابطة. إنه استثمار من شأنه أن يعود بنتائج مهمة علي الجميع؛ حيث ستستفيد كل البلدان الواقعة علي هذا القوس ناهيك عن الولاياتالمتحدة من تغير في الوضع الراهن؛ وستكون بالتالي مستعدة للتوصل إلي حلول توافقية لكسب الأمن الحقيقي. كما أن من شأن تصحيح جذري للمسار بقيادة الولاياتالمتحدة تأمين تغيير سلمي ودائم عبر كل منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا.