العداوة المريرة التي يكنها بوش لإيران، والحملة التي يقودها ضدها حتي لا تمضي في نشاطها النووي -وتأليب العالم عليها أمر- قد لا يفهم للوهلة الأولي، فليس بينه وبين إيران "تار بايت" ولا إيران قريبة من الولاياتالمتحدة ولم يشترك إيراني في حملة 11 سبتمبر أو يشترك أحد منهم في القاعدة.. إن إيران بعيدة عن كل هذا، فلماذا يعلن بوش هذه الحملة ويواصلها مندوبه الإسرائيلي الصليبي "بولتون" في مجلس الأمن. إن الأحداث الأخيرة ألقت ضوءا يفسر بسبب ذلك. فإيران هي التي زودت حزب الله بالصواريخ التي أقضت مضاجع الإسرائيليين علما بأن حزب الله لاحظ اعتبارات سياسية عليا جعلته يحجم عن استخدام صواريخ يمكن أن تدمر تل أبيب، واكتفي بصواريخ لا تدمر المباني، ولا تتصيد الناس في العربات والمستشفيات ولكنها توقع الخوف بين الإسرائيليين. لقد أفسد هذا علي بوش خطته وبدل انتصار إسرائيل هزيمة، وهذا بالطبع يهدم سياسته رأسا علي عقب علي مستويين الأول: هو مستوي الحرب الدائرة التي تتوقف عليها الكثير من النتائج سواء في لبنان أو الدول العربية والثاني: إنه يخل بميزان القوي الذي وضعوه وأمنوا في ظله وهو أن تكون إسرائيل هي الوحيدة التي لها سلاح نووي وأن تبلغ قوتها العسكرية مجموع قوي الدول العربية مجتمعة، وهذا سيكون كابحا لأية دولة عربية لتعادي إسرائيل عداوة توصلها إلي القصف النووي. إذا كان هذا الموقف من إيران يثير جنون بوش، فماذا نستفيد نحن منه؟ هل من الممكن أن توحي إلينا هذه الحقيقة بشيء؟ إذا كانت مصر قد أوقفت نشاطها النووي علي أساس أن السلام هو خيارها الأبدي.. ولما ظهر أن هذا السلام لا يمكن أن يتحقق إزاء عدوان إسرائيل وخططها التوسعية، فيفترض في مصر إما أن تواصل نشاطها النووي، وعندئذ ستجد نفسها في الموقف الذي تقفه إيران، أو أن تحالف دولة لديها السلاح النووي بمعاهدة دفاع مشترك توجب عليها المشاركة في الحرب إذا هددت مصالح مصر بالخطر. ومضمون هذا، أن علي إيران أن تستمر في نشاطها النووي لتصل إلي اخر درجة للحصول علي سلاح نووي. وأعتقد أن هذا سيحدث.. فلن تستجيب إيران لمطالب أمريكا ولن يستطيع مجلس الأمن أن يفرض عقوبات علي إيران يمكن ان تؤخر مسعاها، علي العكس أن هذا سيعطي إيران الحجة للمواصلة. العلاقات بين مصر وإيران علاقات طبيعية تشدها الروح الثورية التي لا تزال تشتعل فيها والعقيدة الدينية التي وإن كان المذهب يختلف فلا أثر لذلك فالمذهب الجعفري هو كالمذهب الحنفي أو الشافعي ومصر شيعية الهوي، تحب آل البيت حبا جما، وتهيم بالحسن والحسين وتحل منها السيدة زينب محلا عليا، دع عنك الروابط التاريخية عندما كانت مصر فاطمية وعندما كان الأزهر منبرا للدعوة الشيعية.. كل هذه روابط تربطنا بإيران وهذا لا ينفي أن السياسة أوجدت بعض السحابات في سماء العلاقات نشأت عن محاباة السادات للشاة التي قوبلت بتمجيد قتلة السادات في إيران، وهذا كله لا يعدو أمورا عارضة ثم تنتهي. بالطبع مصر أقرب إلي المنطقة العربية ولكننا جربنا المنطقة العربية فلم يحدث أي إجراء يعزز الوحدة ويوثق التقارب، بل علي العكس يبدو أن كل دولة تقوقعت في صدفتها ولا تلحظ إلا مصلحتها وعلي كل حال فليس في الدول العربية ما نريد. الحقيقة "الجيوبوليتيك" التي تفرض نفسها هي أن الدولة الوحيدة التي بينها وبين مصر عداوة بحكم وضعها وتأريخها والتي قامت حروب عديدة بينهما ارتكبت فيها إسرائيل الفظائع والمجازر وقتلت آلاف الجنود في الصحراء المحرقة، ولم تتنازل إلا مرغمة عن سيناء وقد وجد في إسرائيل من يقول إن الحرب مع سيناء أفضل من السلام بدونها وإسرائيل تضع خططها لتحقق المليون السابع سنة 2020 وعندئذ ستضيق بها رقعتها، ومن المؤكد أنها ستضع الخطط لتأخذها مرة أخري "سيناء".. فإذا قاوم الجيش المصري وهزمها هزيمة ساحقة، أفليس طبيعيا أن تلجأ إلي السلاح النووي لينقذها؟ ومن يلومها؟ والجميع يصرخون بملء أفواههم إن من حق إسرائيل أن تدافع عن نفسها. وبعد هزيمتها في عام 1973 ترددت أقاويل في إسرائيل بتدمير السد العالي وهو ما يؤدي إلي إغراق مصر بأسرها. أريد أن أقول إن من الخير أن ننظر إلي المستقبل البعيد وأن نتعلم من دروس التأريخ ومن ضرورات الوقائع من هو عدونا الحقيقي؟ وأن نتخذ الضمانات هذه كلها توحي لنا: لماذا لا نوثق علاقتنا بإيران؟ ولماذا لا نعقد معها اتفاقية دفاع مشترك؟ ألا يكون هذا هو نهاية اللعبة التي تلعبها أمريكا، والتي جعلتها تغزو أفغانستان والعراق ثم بيروت. جمال عبد الناصر عندما لم يستطع أن يحصل علي السلاح من أمريكا وحلفائها فإنه تحول إلي المعسكر الشرقي الاتحاد السوفيتي وبدأ صفقة الأسلحة التشيكية وكانت تلك هي نهاية الود المزيف بينه وبين أمريكا. صحيح أن إيران بعيدة عنا ويصعب أن تكرر ما فعلته لحزب الله في لبنان عندما زودته بالصواريخ عن طريق سوريا ولكن البعد فقد كثيرا من أهميته في عصر الطيران فضلا عن أن ما نريده من إيران ليس هو المعتاد ولكن المساندة النووية. إيها السادة: فكروا في هذا، فقد تقلبون المعبد علي دعاة الشرق الأوسط الكبير وتدفنون الفكرة من أساسها.