لكل دولة ظروفها الخاصة التي تفرض نفسها علي سياساتها وتصرفاتها، وهذه الظروف تختلف من بلد إلي آخر بحيث يكون من العسير اصدار قرار لا يلحظ هذه الضرورات، ويكون من الخطأ قياس دولة ما علي دولة أخري ليست لها ظروفها. لبنان دولة صغيرة في وسط المحيط العربي وقد كانت علي مدار التاريخ جزءاً من الشام الذي يمتد من ميناء العقبة جنوباً حتي حلب شمالاً، وهي محسوبة علي العرب شاءت أو لم تشأ، فهذا قدرها، وهي من ناحية أخري تلامس حدودها حدود عدد من الدول العربية، ومع إسرائيل أيضاً. وهي دولة ليبرالية حرة تزدهر فيها الصحافة والطباعة والسياسة مما يجعلها منبراً حراً لقضايا الوطن العربي، ويتضمن مجتمعها طوائف مختلفة من دروز ومارون وسنة وشيعة، ولما لم يكن لها أطماع توسعية فإنها لم تمنح الجيش الأهمية التقليدية بحيث أصبح بالبوليس أشبه وقد تورطت في حرب أهلية دار فيها القتل علي الهوية ودمرت الكثير من مبانيها حتي أعيد إعمارها لتقع في يد الاجتياح الإسرائيلي سنة 1982، ولم تخلص منه إلا بجهود دولية متعسرة وبعد أن ظهرت فيها المقاومة الفلسطينية.. باختصار.. ظروف لبنان لا تسمح بتكوين جيش كبير للتصدي، وفي الوقت نفسه فإن حدودها تتقارب مع الحدود الإسرائيلية، وكان هذا سبباً في استيلاء الصهيونية علي مزارع شبعا واحتلالها الجنوب احتلالاً لم ينته إلا بعد أن جعلت مقاومة حزب الله وجودها عذاباً واستنزافاً، فانسحبت تاركة وراءها حليفها الذي اصطنعته وجعلت منه "جنرالاً" الجنرال لحد والجيش الذي اصطنعه وخلفوا وراءهم مع ما خلفوه سجن الخيام الذي أقاموه في الشريط الحدودي. مادامت لبنان لا تستطيع تكوين جيش كبير ومادام العدو الإسرائيلي موجودا يتربص بها، كان لابد أن تظهر مقاومة من افراد الشيعة الذين يسكنون الجنوب وبما أنهم شيعة فقد كان طبيعياً أن يوجد تعاطف ما بين إيران الشيعية وهذه المقاومة الشيعية، وحل هذا التعاطف المشكلة التي كان يمكن أن تعسر مهمة المقاومة، ألا وهي تسليحها أمام الجيش الإسرائيلي، إذ زودت إيران هذه المقاومة بسلاح الصواريخ التي قضت مضاجع الإسرائيليين، إذ كان من غير العملي أن تزودها بطائرات ودبابات. لا أري حساسية في أن تمد إيران حركة المقاومة التي تتصدي لإسرائيل، ولا أعتقد أن أي لبناني يجد في هذا حرجاً فمادام الجيش اللبناني غير مؤهل حالياً للرد علي أسلحة العدو الإسرائيلي المتطورة، ومادام سلاح المقاومة ساذجاً، فإن الدعم الإيراني حل الموقف علي أساس التعاطف الإيراني، وأن يكون السلاح موجهاً نحو إسرائيل، لم يكن من هذا بد، ولم تكلف حكومة لبنان شيئاً لقاء هذا الدعم،. كما أن هذا الوضع يعفيها عن أي مسئولية مباشرة عما يمكن ان تقوم به المقاومة وسلاحها، ومعروف أن علاقات الدول لها حساسيات وحسابات وموازنات تقيدها، وإن العرف الدولي يعطي المقاومة حق القيام بدورها، خاصة إذا كان هذا الدور دفاعاً عن أرض لبنان اتساماً مع الظرف اللبناني والضرورات. لا أفهم الشنشنة والدعوي التي تثيرها الدول الأوروبية عن حق الدولة في ان تنشر جيشها علي كامل أرضها، اذا كان هذا معقولاً ايام الوجود السوري، فلا محل له بالنسبة للمقاومة التي هي جزء لا يتجزأ من شعب وحكومة لبنان، وهذا لا يعد انتقاصاً له، ولكن لأن حركة الجيش واتصاله بجهاز الدولة وتنظيمه... كل هذا لا يجعله مؤهلاً للنوع الوحيد من الحرب الناجمة مع إسرائيل "حرب العصابات" التي تضرب وتختفي لتضرب من جديد من مكان جديد... الخ.. مما يعسر علي الجيوش النظامية. وكل الدعوات التي تندد بسوريا أو إيران إنما يراد بها عزل لبنان عن حلفاء يساندونها حتي تصبح معزولة ومحرومة من دعم هؤلاء الحلفاء لتستطيع إسرائيل ان تفعل ما تشاء. في هذه الظروف كلها تصبح المقاومة الشيعية في الجنوب التي يقودها حزب الله قدراً مقضياً، ولا يمكن بدونها كما لا يوجد سواها من يحمي تراب لبنان من افتيات، أو عدوان إسرائيل. هناك عنصر آخر يعززه من الناحية العملية والواقعية قدر ما من يوجبه من الناحية النظرية والمبدئية.. ذلك هو أن المقاومة قد وفقت إلي قائد عظيم كأنما خلق لهذه المعركة فهو يعني بالتكتيك والتفاصيل العملية الصعبة، كما يلحظ الاستراتيجية واعتباراتها الطويلة، وقد رزق الإيمان الذي لا يتزعزع لانه قائم علي ايمان بالله والرسول وبطولات آل البيت، ولديه مع هذا الحكمة التي تحول بينه وبين السرف أو الانحراف وقد أوتي لساناً طلقاً فصيحاً وتمكناً من اللغة فتجد خطاباته منطقية، معقولة، مقبولة، بعيدة كل البعد عن الغوغائية التي عرف بها بعض قادة الدول العربية، ثم هو لبناني عريق يؤمن بلبنان كأشد اللبنانيين وطنية، ولا يتطرق إليه أي انحراف طائفي، فعلاقته بالمارونيين كعلاقته بالسنيين وكعلاقته بالدروز.. إنهم جميعاً أبناء لبنان، وهو عسكري مضرس حارب الإسرائيليين من عام 1982 وألحق بهم الهزيمة التي اضطرتهم للانسحاب من جنوب لبنان. ان هذه الصفات كلها من العسير ان تتوفر في شخص، ومن توفيق الله وحظ لبنان ان يتولي السيد حسن نصر الله قيادة المعركة، ولولا هذه الصفات لما استطاع وهو مهما كان حزب صغير ان يتصدي لدولة عدوانية مدججة بالسلاح وتقف وراءها أمريكا لما أمكن أن يحول دون أي إنزال وأن يتلاحم رجاله مع أقوي فرق الجيش الإسرائيلي.. ثم يهزمونه.. هنياً للبنان بطلها.. وبطل العرب جميعاً حسن نصر الله..