الذي صنعَ في بطنِ أمي فجوةً، قبل أربعين عامًا، يهوديٌّ. انتزعَ الرحِمَ وراح يقشّره بأظافرَ كثيرةٍ مثل بَصَلةٍ ساكتة. في الأخير وجدَ جسدًا مُكوّرًا. كان أنا. ليون ليشع، يهوديٌّ في قاهرة الستينيات. تقول الصحيفةُ إنه كان نائمًا حين حطّم أبي بابَه عند الفجر صارخًا فيه إن زوجتي تموت وطفلتي تموت وإنكَ طبيبٌ فاشل. وتقول الصحيفةُ إن ليشع ردَّ بمصرية ركيكة: أعرف أنهما تموتان لأن الأمَ تنزفُ والطفلةَ عذّبَها جِفْتُ الولادة. الجِفْتُ الذي سيترك فوق جبينها حُمْرةً أبديّة بين الجفنين، سوف يتغزّلُ الشعراءُ فيها بعد عشرين سنةً في قصائدهم عن البنت التي ستصير شاعرة. وتقول الصحيفةُ إن أبي هدد، وهو يشده من ياقة البيجاما، بقتله مرّةً لو ثبتَ أنه طبيبٌ فاشل، ومرتيْن لو ثبت أنه مارس عداءً سياسيًّا تجاه زوجته الجميلة. والصحيفةُ لم تقل إن أبي لم يقتله مرةً أو مرتيْن، ذاك أن أمي لم تمتْ وأنا هنا الآن أكتب. ثم إن أمي فكرّت أنها لم تعد تحتاج إلي رحمٍ، ذاك أن طفلين فقط يكفيان في هذا الغلاء، الذي سيأتي بعد أقل من عشر سنوات جرّاء حرب أسموها خطأً حرب التحرير، سيما لو أرادتِ المرأةُ أن ينبغَ طفلاها في التعليم. أخي، الذي قفز من بطنها في يسر قبلي بعامين، نبغ وصار هو الآخر طبيبًا يُخرج الأطفالَ من البطون. أما أنا، فكما ترون أكتبُ ما لا يفعل شيئًا. نسيتُ أن أسأل أمي كيف خرج أخي من بطنها. لكنه بالتأكيد لم يتقشّر من رحمها، ذاك أن للمرأة رحمًا واحدًا هو الذي خرج معي بمعرفة ليشع. أين أنت يا ليشع؟ هل مازلت حيًّا؟ بالتأكيد، فأنت معمِّرٌ مثل الزمن. هل غدوتَ صهيونيًّا؟ علّكَ الآن تجلسُ إلي حاسوبك في موقع www.cnn.com. تصوّت لصالح إسرائيل ضد حزب الله وضد لبنان وضد الجمال وضد الطفولة. في خانة الملاحظات تكتب ما أملاه عليك إيهود أولمرت: إن قصفَ لبنانَ وتشويهَ أطفالِها حقٌّ لأن إسرائيلَ لا تركع. حوّلْ الآن مؤشر التليفزيون إلي قناة الجزيرة. فأنت تفهم العربية جيدًّا يا رجل. انظرْ كيف يصهينون البراءة! هؤلاء أطفالٌ يهود يكتبون رسائلَ علي قذائفَ مسمّمة سوف يرسلونها إلي أطفال مثلهم في لبنان. كم طفلا يا ليشع خرجوا علي يديك إلي هذا العالم؟ وهل الذين يخطون رسائلهم الآن صنيعتُك؟ الرسائلُ وصلت مع الشكر. هذه بنتٌ لبنانية احترق وجهها ولم يتبق إلا خصلةٌ مشعثة مما كان بالأمس جديلةً جميلةً بشرائطَ ملونة. وإسرائيلُ لا تركع، الطفلة المدللة التي حيّرت العالم لا تركع طبعا، لكن اثنتين وعشرين دولةً يمكنها أن تصطف كفريقي كرة قدم في المونديال. فريقٌ في كل جانب من ممر مظلّل بأشجار الزيتون كيما تمرَّ الطفلةُ المعجزة. لو كنتُ أعلمُ أنك ليون ليشع لتلكّأتُ في الخروج كي يقتلك أبي. ولو كنتَ تعلم أنني سأكون أنا لكتمتَ أنفاسي بالوسادة المُدمّاة بنزف أمي، ثم لجأتَ سياسيًّا لإحدي الدول العربية طلبًا للحماية. اطمئنْ، فالعربُ لا يجيدون التكشيرَ عن الأنياب في وجوه أعدائهم. نسوا هذه الثقافة من زمان. الآن هم قوم لطفاء ومستأنَسون. ثم أنك بالتأكيد كنت تعرف أن كامب ديفيد سوف تأتي بعد عشر سنين ولذلك فقد تسرّعتَ بقرار الهجرة. مصر بلدُك أكثر مما هي بلدي وبلد أي مصري! فنمْ ملءَ جفونِك عن شواردها، وليسهرِ العربُ جراكَ ويختصموا. عشرون دولةً تحولّت من مُحارِبٍ شرسٍ إلي متفرّج طيب ثم إلي حليف أمين. دعكَ من دِقّةِ الأرقام، فدقّةُ الأرقام عبءٌ ثقيل. الأرقامْ. التي حرمتني من قراءة الأخبار ومشاهدة النشرة منذ عقد ونصف. منذ تحولّت الثقوبُ والجثثُ والجماجمُ والأجزاءُ البشريةُ إلي أرقام. هذا مثقوبٌ فخذُه بشظيةٍ، ومقطوعةٌ ذراعُه ولا رأسَ هناك. في نشرة التاسعة سيحملُ رقم 283، وفي صحيفة الغد: "لقي 300 شخص علي الأقل مصرعَهم إثر غارةٍ إسرائيلية استهدفت جنوبَ لبنان. لذلك لن أقرأ الجريدةَ ولن أشاهدَ النشرة. سأنتظرُ المساءَ حتي ألتقي حبيبي في مقهي أنديانا بحي الدقي ليخبرني بالأحداث. سأتعمد أن انشغلَ بدخان النرجيلة وصوت فيروز يتردد من بعيد: بحبك يا لبنان. وهو سيحكي لي عما طالعه في جريدة الصباح. الصباحُ يعني الماضي. وأنا سأتلقي الأمرَ بوصفه ماضيًّا وتاريخًا لا يُحزَن بشأنه. هل يحزنُنا التاريخ؟ التاريخُ حفنةُ أرقامٍ مجردة. يوم وشهر وسنة وتعداد قتلي ومشوهين ومجازرَ وانفجارات، وعددُ دباباتٍ وبوارجَ وصواريخَ تَسقطُ فتمحو عددًا آخر من البلدان والبشر والأطفال والبيوت. محض أرقام لا تعني إلا نفسها. حبيبي مازوخيُّ النزعة يعذِّبُ نفسَه بمعرفة الحدثِ وقتَ حدوثِه، وأنا ذكيةٌ ولا أقرأ الصحفَ إلا بعدما تتحول إلي ماضٍ. لكن ألا لعنة الله علي قناة الجزيرة التي تطاردني بالصور ووجوه أطفال تحترق. رغم ذلك لا داعٍ لقتل النفس غمًّا. فبوسع المرء النهوضُ الآن، دخولُ الحمام والوقوف تحت دش بارد منعش ثم دعك الأسنان بمعجون بنكهة النعناع. نعمةٌ كبري أن يمتلكَ المرءُ فرشاةَ أسنان ومعجونًا بنكهة النعناع. أما لبنان فله ربٌ يحميه، مثلما نفضنا أيدينا من القدس والعراق. وبعد شهر من الآن سوف يتحول الأمر برمته إلي حفنة أرقام وتواريخ. لكن هل ضبطتُّ نفسي أولَ أمس أصفّقُ لجماعة دينية متطرفة؟! نعم، يبدو هذا. ذاك أنهم فعلوا ما تخاذلت عنه اثنتان وعشرون دولة ببشرها وجيوشها ونفطها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها. كم مليار نسمة بلغ العرب؟ أعرف أن إسرائيل نحو ثلاثة ملايين، فكم مليارًا نحن؟ هل سأعود للأرقام؟ حين ينتشر البغاث نبحث عن صلاح الدين. فلو صارَ نصرَ الله سنقول رأسًا: نحن معك، فأنت المقاومُ الأخير. وأما أنت يا لبنان، يا فلسطين، يا عراق، فلكم الله، كلنا خونة، ولا أستثني أحدًا. يسألني طفلي أمام قناة الجزيرة: - لماذا لا يخرج الإسرائيليون من فلسطين؟ - لأنهم يظنون أنها كانت أرضَهم. - ولماذا لا يخرج الفلسطينيون؟ - لأنها أرضُهم، وفلسطينُ عربيةٌ وطبيعيٌّ أن تكون وسط العرب. - والعربُ يريدون فلسطين بينهم؟ - نعم. - وهل يستطيعون إخراجَ إسرائيلَ من وطنِنا؟ - نعم. - كيف؟ - بالضغط بقوة النفط وبالثقل البشري وبسحب سفرائهم من أمريكا، وبأشياء أخري كثيرة. كفي الآن واصمتْ. - ولماذا لا يُخرجونها؟ - لأن الحكام العرب زمان كانوا يحاربون من أجل فلسطين، ثم أصبحوا يتفرجون عليها وهي تحارب وحدها، والآن بدأوا يتحالفون ضد.. ، أقصد... تفرّجْ وأنت ساكت يا ولد! - لماذا؟ - لماذا ماذا؟ - لماذا يفعل العربُ هذا؟ - لأنهم يخافون من أمريكا؟ - هل أمريكا تحبُّ إسرائيل؟ - نعم. - ولماذا لا تعطي أمريكا لإسرائيل أرضًا جميلة في مكان بعيد عنا؟ - هي تريدها في قلب الوطن العربي. - في درس الجغرافيا أرسمُ إسرائيلَ في خريطة الوطن العربي! - علي أيامنا لم نكن نرسمها في الخريطة يا حبيبي. وأنت أيضًا لا ترسمها أبدًا فهذا خطأ تاريخيّ ولابد أن يُصحَّح. - لكن سأرسب لو فعلت هذا! - ارسبْ في الجغرافيا وانجحْ في التاريخ. - وهل سيتركُ العربُ فلسطين وحدها؟ - فلسطين ولبنان يا حبيبي. - والعراق يا ماما! - نعم، وبلاد أخري قادمة في الأجندة. - لكنني أحب فلسطين ولبنان والعراق. - نحن شيءٌ وحكامُنا شيءٌ آخر يا صغيري. - حين أكبر لا أريد أن أكون حاكمًا. - حين تكبر كن رجلا عربيًّا جميلا. نعم، عربيٌّ وجميل، يعني لن تكونَ واحدًا من حكّامنا.