بعد أكثر من أسبوع علي البدء بها يتفق العديد من الكتاب والمعلقين الإسرائيليين علي أن غايات حملة "أمطار الصيف" العسكرية الإسرائيلية المستمرة في قطاع غزة تتجاوز بكثير تحرير الجندي الأسير جلعاد شليط، وإن اتخذت من عملية أسره ذريعة تندرج في خدمة الترويج للحملة إسرائيليا ودوليا. كما يتفق هؤلاء علي أن هذه الغايات أوسع نطاقًا، من الناحية الإستراتيجية الصرفة. وبقراءة ما يقوله معظم هؤلاء نستطيع الإشارة إلي أن الغاية، التي قد ترتسم بكونها رئيسية، تتمثل في إيجاد "أصول لعبة جديدة" يتم في إطارها احتساب إطلاق صواريخ في اتجاه بلدات ومدن جنوب إسرائيل من القطاع خارج نطاق "أصول اللعبة" التي اعتمدت في أعقاب تنفيذ خطة "فك الارتباط" عن غزة في صيف 2005. وذلك في أعقاب سقوط قدرة الردع الإسرائيلية، وهو سقوط يفضي إلي نقاشات أخري يرتبط الجانب الأهم منها بمستقبل الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. ويلمح الباحث شلومو بروم، من "مركز يافه للدراسات الإستراتيجية" في جامعة تل أبيب، في هذا الشأن، إلي أن الموديل الذي تسعي إسرائيل إلي تطبيقه علي جبهة الحدود مع القطاع هو الموديل "الذي أصبح قارًّا في الحدود الإسرائيلية اللبنانية". "هناك يضيف هذا الباحث موضحًا ورغم أن المواجهة مع حزب الله لم تضع أوزارها بعد، إلا أنها تدور عادة بموجب أصول لعب جلية، وبينها عدم المسّ بالسكان المدنيين والتمركز في جبهات (قتال) معينة". أما الوسيلة التي يتم اتباعها في سبيل بلوغ هذه الغاية وغيرها من غايات الحملة المذكورة فإنها تتحدّد، في القراءات الإسرائيلية للتفاصيل الظاهرة من العمليات العسكرية، في ممارسة الضغط المكثف علي حركة "حماس" والفصائل الفلسطينية الأخري الناشطة ضد إسرائيل. ووفق تقارير البعض فإن هذا الضغط مخطط له أن يتصاعد تدريجيا، وبواسطته يتم تمرير رسالة مؤداها أن "وضع الفصائل سيصبح أكثر سوءًا، وسيزداد الثمن الذي يدفعونه إذا ما واصلوا رفض التكيف مع أصول اللعبة الجديدة"، التي علي ما يبدو ستمضي إسرائيل قدمًا في سبيل فرضها. في موازاة ذلك ثمة من يري أن طريقة العمل هذه تنطوي علي عدة أفضليات من ناحية إسرائيل. ومنها أن إسرائيل تؤكد عبرها أنها ليست في عجلة من أمرها، فيما يختص تخصيصًا بإطلاق سراح الجندي الذي يظل أسره بمثابة "ذريعة سهلة ومريحة" لمواصلة العمليات العسكرية. وثانيا أن هذه الطريقة تجعل الرأي العام العالمي والأسرة الدولية لا يخفّان إلي إدانة إسرائيل وممارسة الضغوط عليها، نتيجة أن هذين الطرفين سيريان في الحملة أصلاً "ردًا مناسبًا علي عملية" أسر الجندي. ويتم إسناد هذه الأفضلية بغياب أو شبه غياب ردود الفعل الحازمة من العالم قاطبةً علي ما تقترفه إسرائيل في غزة من ممارسات قتل وتدمير تطول المدنيين العزل وممتلكاتهم. كذلك يتحدّث البعض عن أفضلية ثالثة تفيد بأن طريقة العمل هذه من شأنها أن تقلل الخسائر البشرية في صفوف الجانب الإسرائيلي. لكن علاوة علي طرح الغايات البعيدة المدي، الاستراتيجية، لحملة "أمطار الصيف"، لا تنفك التعليقات الإسرائيلية تتناول السؤال المتعلق باحتمالات النجاح والإخفاق. ودون خشية الوقوع في المبالغة أو الرغبية بالإمكان تسجيل أن هناك شبه إجماع يرجّح احتمالات الإخفاق علي النجاح. وإن عوامل تغذية شبه الإجماع هذا تحيل كافتها إلي الطرف الفلسطيني، بما يشير إلي أن حقيقة كون الطرف الإسرائيلي، بمستوييه السياسي والعسكري، لا يأخذ الطرف الأول في حسابه تشكّل الثغرة الأكبر التي من شأنها جعل احتمال نجاح "أمطار الصيف" نجاحًا محدود الضمان أو غير محمود العواقب. والأمر الأساسي في هذا الجانب غير متعلق فقط بممكنات المقاومة التي تملكها الفصائل الفلسطينية وإنما يتعلق، بصورة جوهرية، بمقدرة الصمود التي لدي الشعب الفلسطيني "الذي مرّ خلال الانتفاضة وقبلها بعملية مكثفة من التكيف مع ظروف حياة صعبة"، علي ما يقول شلومو بروم، مثلاً. وعلي ذكر عدم أخذ أمور جوهرية في الاعتبار ثمة ضرورة للتنويه بأن وسائل الإعلام الإسرائيلية تنزع نحو التقليل من قيمة التأثير الذي ينبغي أن يعزي للرأي العام الشعبي في إسرائيل في المسألة الأمنية. غير أنه برزت في الآونة الأخيرة مؤشرات إلي بداية تشكل رأي عام كهذا وقوده أهالي الجنود المفقودين والأسري السابقين بالإضافة إلي الأسري السابقين أنفسهم، مع ضرورة مراعاة أن غاية الضغط- إذا كان هناك ضغط من هذا القبيل- الذي يمارسه رأي عام كهذا تتحدّد الآن في إطلاق سراح الجندي الأسير حتي ولو بثمن صفقة تبادل أسري ترفض إسرائيل أن تتفاوض حولها "بكل إباء وشمم"... وقد ورد في بعض وسائل الإعلام في هذا الخصوص أخيرًا ما يلي: يبدو أن نوعام شليط، والد الجندي الأسير، يخوض نضالا، مازال علي نار هادئة، مقابل الحكومة الإسرائيلية ورئيسها ايهود أولمرت، الذي يعلن صباح مساء رفضه التوصل إلي صفقة لتبادل أسري يطلق بموجبها سراح أسري فلسطينيين مقابل الجندي شليط، فيما لا يخفي والد الجندي قلقه علي حياة ابنه مع مرور الوقت. في واقع الأمر فقد أثارت عملية أسر شليط تداعيات لدي معظم الجنود الذين تم أسرهم في دول ومنظمات عربية خلال الحروب التي شنتها إسرائيل. وأثارت ذكريات لدي المجتمع الإسرائيلي عموما حول عمليات تبادل الأسري. وقال الكثيرون من هؤلاء الجنود وآبائهم وأمهاتهم لعائلة شليط إن إطلاق سراح ابنها يتعلق بالأساس بمدي علو صوت العائلة المجلجل، خصوصا في وسائل الإعلام. أما غاية مناهضة الاحتلال ذاته والاحتجاج علي ممارساته فعلي ما يظهر لا تزال تنتظر من يرفع رايتها شعبيا بمستويات أعلي مما هو حاصل حتي الآن. للتذكير: السلام، الاحتلال و"معسكر السلام الإسرائيلي" عطفًا علي ما تقدّم بشأن مناهضة الاحتلال إسرائيليا، تشهد إسرائيل في السنوات الأخيرة، وتحديدًا منذ انفجار الانتفاضة الثانية في سبتمبر 2000 وما عنته في قراءة إسرائيل من "انقلاب" علي "برنامج أوسلو"، بعض المحاولات لتقييم أداء ما يعرف باسم "اليسار الصهيوني" المناصر للسلام عبر مناصرة جهود التسوية والمفاوضات مع الشعب الفلسطيني، كما تجلّت علي وجه التخصيص في المفهوم الذي وقف خلف اتفاق أوسلو. 1 مهما تكن هذه المحاولات فإن ما هو مثير فيها هو توجيه عدد منها النقد الشديد إلي ذلك "اليسار الصهيوني" الذي علي الرغم من تأييده الترويجي للسلام، فإن هذا التأييد لم يصرفه قيد أنملة عن مواصلة "التمسك بالاحتلال"، علي حدّ تعبير إحدي الباحثات (تانيا راينهارت في كتابها "أكاذيب عن السلام- حرب باراك وشارون ضد الفلسطينيين"، إصدار: منشورات "سفري تل أبيب"_ تل أبيب، 2005). وإذ تؤكد الباحثة نفسها أن "القيادة السياسية لمعسكر السلام الإسرائيلي صاحبة تجربة ومراس طويلين في تسيير وجهة معظم المعارضين للاحتلال نحو طريق الحفاظ علي الوضع القائم"، فإنها تلفت إلي أن هؤلاء الأشخاص هم نفسهم الذين بشّروا في أثناء سنوات أوسلو بأن الاحتلال انتهي عمليا وأن ما تبقي هو بضع سنوات من المفاوضات فقط. وهم خبراء في إقناع كل من هو مستعد للإنصات لهم بأن "الملك ليس عاريا" وأن "المشكلة كامنة فقط في عيوننا". وإذا لم تقف الأكثرية في إسرائيل لهؤلاء بالمرصاد فالاحتمال الأقوي هو أن ينجح هؤلاء الخبراء في مهمتهم مرة أخري. مع ذلك تضيف فإنه للمرة الأولي منذ أوسلو نشأت حركة سلام إسرائيلية آخذة في التوسع وهي عصية علي طوع القادة السياسيين لمعسكر السلام التقليدي. النواة الصلبة لهذه الحركة مؤلفة من مجموعات احتجاجات محلية عديدة أصبحت فاعلة منذ بدء الانتفاضة في 2000، وفي مركزها نساء ناشطات. وتذكر الباحثة من هذه المجموعات حركات "يوجد حد" و"شجاعة الرفض" و"يو بروفايل" و"تحالف النساء من أجل السلام" و"تعايش" و"كتلة السلام" و"الغسيل الأسود". وتؤكد أن المبدأ الأساسي الهادي لهذه المجموعات هو أن "الكفاح من أجل السلام وضد الاحتلال هو كفاح إسرائيلي- فلسطيني مشترك". 2 ذا كانت راينهارت قد تناولت الموضوع من وجهة نظر اليسار الإسرائيلي الراديكالي، الذي تنتمي إليه، فإن باحثًا إسرائيليا آخر هو جولان لاهط من المؤسسة الأكاديمية الإسرائيلية سبق له أن تناول، بصورة رئيسة، أداء اليسار الإسرائيلي (الصهيوني) حيال عملية السلام مع الفلسطينيين، وتوصل إلي النتيجة نفسها تقريبًا، وذلك في كتابه "الإغراء المسياني صعود وسقوط اليسار الإسرائيلي" (صدر عن منشورات "عام عوفيد" تل أبيب في 2004). وقد رأي أن احتضار هذا اليسار واندثار الجهود السياسية للوصول إلي السلام (علي أثر محادثات كامب ديفيد 2000) يرجعان، أساسًا، إلي ما يسميه "المفهوم المسياني العلماني الذي تبناه اليسار خلال عقد أوسلو". ويؤكد لاهط أنه فجأة (عقب محادثات كامب ديفيد) تبين له أن اليسار المذكور، الذي يعد نفسه كمن يدفع حقوق الإنسان إلي الأمام وكمن يتبني تفكيرًا علمانيا، أقرب عمليا في شكل تفكيره إلي "الحركة الشبتائية"، حتي أنه أقرب إلي الحركات التوتاليتارية (الشمولية) مثل الشيوعية. يري لاهط أن هناك أربع خصائص للتفكير المسياني. والخاصية الأهم بينها هي إدارة الظهر للراهن القائم. وفي رأيه فإن "برنامج أوسلو (اتفاق أوسلو) يخلو من العمي المسياني، ذلك أنه تدرّجي، واع للعقبات الكثيرة في الطريق ومتشكك"، علي حد قوله. ويضيف: "كما أن إسحق رابين، رئيس الوزراء الإسرائيلي المقتول، تمعن في الواقع بعينين شاخصتين. غير أن اليسار الإسرائيلي لم يقرأ الحروف الصغيرة وأصبح أسير السحر المسياني للسلام. لقد تغاضي هذا اليسار عن حقيقة أن غالبية (عناصر) السلام بقيت في الأدراج، وأن الاحتلال استمر كما لو أنه لم يحدث شيء يذكر. كما تعامي عن أن أية مستوطنة (كولونيالية) لم تتحرك من مكانها وأن العنف الفلسطيني، نتيجة لذلك، لم يتوقف. لقد كان الواقع الإسرائيلي نفسه عقبة في الطريق إلي الشرق الأوسط الجديد (حلم شمعون بيريز) وإلي الثمار الكبيرة التي وعد بها. هذا الواقع كان عقبة أمام الوصول إلي خاتمة المطاف". إلي ذلك يعتقد لاهط أن المسئولية عن المناخ المسياني، الذي تطور بعد (اتفاق) أوسلو، يتحملها مباشرة شمعون بيريز ويوسي بيلين. وهو يؤكد أن بيريز هو ذلك الذي بلور، بصورة عامدة، وعيا إلي ناحية "أن السلام أصبح قائمًا" (أي أضحي حقيقة واقعة). وقد ذهب بيلين في عقبيه. ويضيف أن المسيانية التي تتطلب مسيحًا كاريزميا هي جزء من التفكير الديني. أما المسيانية العلمانية فإنها لا تستوجب مسيحًا شخصانيا، اذ أن المسيح في هذه الحالة هو السلام. وأعاد إلي الأذهان، في هذا الشأن، إحدي المقابلات مع شمعون بيريز، حيث تحدث في سياقها عن الحاجة والضرورة إلي الدفاع عن جسد السلام. "كما لو أن السلام هو شخصية تتجوّل في الشوارع".