الأستاذ هيكل صار الصحفي الاول في عالم الصحافة العربية بلا منازع، وهو قد اكتسب مكانته عبر تاريخه الطويل لعدة اسباب اجتمعت كلها مرة واحدة، وهي قلما تجتمع هكذا الا في ظل ظروف غير عادية واستثنائية. فهو قد نشأ وترعرع في سنوات شبابه المبكر في مدرسة اخبار اليوم، وصار الرجل الثاني في هذه الدار اذا اعتبرنا ان الرجل الاول فيها الاخوان "علي ومصطفي امين.. فكان هيكل هو صنو الرجلين، يلازمهما في غدوهما ورواحهما، وكان مبعث ثقتهما، وموضع اعجابهما.. وكانا هما اصحاب الدار عدوين للحركة الوطنية في ذلك الوقت، وينحازان للقصر ورجاله، وينظمان الحملات ضد حزب الوفد وقياداته.. وهيكل من خلال اشتراكه في قيادة هذه الدار في شبابه المبكر حصل علي جائزة الملك فاروق الأول اكثر من مرة. تلك هي البدايات الاولي لهذا الرجل.. وجاءت النهاية يوم بلغ الثمانين من عمره، فاستأذن في الرحيل، واعتزل الكتابة، وكف عن امساك القلم الا فيما ندر.. لكنه فجأة وبسرعة عاود الظهور.. ليس علي صفحات الجرائد والمجلات والكتب.. ولكن علي شاشة التليفزيون من خلال قناة الجزيرة.. يطل علينا مرة كل اسبوع لمدة ساعة.. وطال الظهور لمدة جاوزت الشهور الطوال.. يحدثنا عن تجربة حياته في عالم الصحافة منذ بدأ صبيا صغيرا في جريدة ال "اجبسيان جازيت" حتي قامت حركة يوليو 1952.. والنظام الجديد لم يولد بعد، وولادته مازالت متعسرة حتي آخر حلقة شاهدناها. ما بين البداية والنهاية نريد ان نتوقف. ولا اخفي انني واحد من قرائه المتابعين.. قرأت معظم ما سطر من مقالات، وما دوّن من كتب، وتابعت احاديثه علي شاشات التليفزيون.. وكنت مبهورا بسعة اطلاعه، وحجم ما لديه من معلومات.. بل ومن اسرار اكثرها لا يحيط بها غيره، يستمدها من الوثائق المتاحة وغير المتاحة، ومن علاقاته الكثيرة المتنوعة بقادة العالم المعاصر وذوي النفوذ والتأثير. وبعد ان خاصم السادات، واختلف معه، ودخل سجونه صرت اكن له تقديرا خاصا.. فهو رجل موقف، ثابت عليه، وعلي استعداد لدفع الثمن وهو القائل "نحن نملك مواقفنا، ولكن لا نملك مصائرنا"، واغمضت العين والعقل عن مواقف سابقة كانت محل ادانة من البعض، غفروها له كما غفرتها.. فأيا كانت هذه المواقف، فهي تعبير عن قناعاته، وليست وليدة المداهنة والنفاق التي اعتدناها من بعض القيادات الصحفية الذين قال هيكل نفسه عنهم "انهم علي استعداد لشق بطون امهاتهم ليصنعوا من جلودها طبولا يدقون عليها في عزفهم" وإلا فكيف خاصم السادات واختلف معه؟! ولكن الذين خاصموا حركة يوليو وعلي رأسهم القيادات الوفدية كانوا ينظرون الي هيكل علي انه عدوهم اللدود لانه قطب من اقطاب الناصرية، واقرب المقربين الي قائدها التاريخي، والمستشار السياسي الاهم لديه. والذين ناصروا حركة يوليو، وآمنوا بمبادئها وقياداتها التاريخية نظروا الي هيكل بارتياب في اعقاب ما سمي بثورة التصحيح في 15 مايو سنة 1971.. فقد كان هو اهم مهندس لهذه الحركة، ومن قيادات من خططوا لها، ومهدوا السبيل للسادات للتخلص من رجال عبد الناصر، ومهد لهذه الحركة بسلسلة مقالات في جريدة الاهرام من بينها مقال بعنوان "عبد الناصر ليس اسطورة".. وكانت جريدة الجمهورية ترد علي هذه المقالات في حينها بأقلام قيادات وطلائع الاتحاد الاشتراكي ومنهم كان المحامي الشهير صبري مبدي. وفوجئنا به يوم خرج علي السادات، او يوم خرج عليه السادات يتحول من صحفي طريد من مؤسسة الاهرام التي قادها وساهم في اقامة صرحها العتيد الي صحفي عالمي من الصحفيين القلائل الذين تستقبلهم كبري صحف العالم في الغرب والشرق "المقالات اليابانية مثلا" وتفتح له صفحاتها في حين ان هناك قيادات صحفية اخري توارت يوم خرجت علي المعاش، واثبتوا انهم مجرد موظفين لا اكثر ولا اقل، وليسوا اصحاب اقلام وملكات فكرية.. مآلهم الوظيفة، وان خرجوا منها توقفوا عن التنفس. هذا هو هيكل الصحفي الاول في عالم الصحافة العربية. ولكن!! هناك اسئلة بدأت تتوارد علي الخاطر لا تجد لها اجابة في تفسير هذه الظاهرة الفريدة والاستثنائية. هيكل يتظاهر بأنه رجل وطني منذ نعومة اظافره.. ينتمي الي الحركة الوطنية التي كان يقودها الوفد بزعامة مصطفي النحاس، وهو ان لم يكن ينتمي الي حزب الوفد الا انه كان متعاطفا معه في اطار بعض التحفظات بسبب ما لحق به من تطورات مست تركيبته الطبقية من صفوة المثقفين الي رجال الاقطاع المباشرين، ومست بالتالي سلوك قيادته في الفترة السابقة علي حركة الجيش. هكذا يحاول هيكل ان يوحي الينا.. ويحاول ان يوحي الينا ايضا انه لم يكن في سلة واحدة مع صاحبي دار اخبار اليوم.. فقد كان مختلفا معهما منذ اول يوم.. واصطدم معهما ذات يوم، وهو ايحاء عصي علي التصديق.. غير سائغ ولا مقبول.. فلا يمكن ان يكون هيكل هو الرجل الثاني في دار اخبار اليوم، ورئيس تحرير مجلة اخر ساعة من اهم اصدارات هذه الدار ولا يكون ضمن بوقة هذه الدار، وأحد رموزها التي تخطط الحملات المتوالية هجوما علي الوفد وقيادته وتشويهها له لحساب القصر.. والذي حصد جائزته اكثر من مرة.. خاصة والواضح من خلال رحلته التي يرويها انه وهو في نعومة اظافره.. ومن خلال عمله في هذه الدار كان علي علاقة وثيقة برجال الحكم المقربين من القصر.. يلتقي بعلي ماهر، ونجيب الهلالي التقاء المقرب صاحب الحظوة.. وانتقلت هذه الحظوة فجأة الي رجال الجيش بعد يوليو 1952 حيث ظن قادتها وللظن شواهده انه قريب من رجال السلطة الملكية التي تعاونت مع رجال الجيش.. فهم في حاجة الي وساطته.. ثم لاحظ رجال السلطة الملكية انه قريب من رجال الجيش فاقتربوا منه اكثر وهم يظنون ان له حظوة لديهم لانه يلازمهم في محافلهم.. وهكذا كان هيكل واسطة العقد بين رجال يوليو العسكريين، وبين سلطة الحكم من الرجال المدنيين من بقايا النظام الملكي قبل ان تتم الولادة المتعسرة للنظام الجديد. ذلك سؤال أول يداهمنا.. وبعده تتوالي الاسئلة.